المحظرة والمدرسة | 28 نوفمبر

المحظرة والمدرسة

ثلاثاء, 01/05/2016 - 16:52

لم يُخلَق المجال "القداسي" للمحظرة (=المدرسة "الدّينيّة") إلاّ بتولُّد ثنائية المدرسة الدِّينيّة والمدرسة النِّظاميّة. (وليس مصطلح "النظاميّة" مصطلحاً مُشبِعاً لأن المدارس السلجوقيّة عُرِفت بـ"النظاميّة"، نسبة إلى نظام المُلك، وكانت هي المسؤولة عن جعل السنّة والأشعرية معياريّة: أي أنّها كانت مدارس "دينيّة"). وقد قُلنا سابِقاً أن مجال القداسة هو من جملة الثنائيات التي أتَتْ بها العلمنة. وفي الحقيقة فإن ثنائيات المدرسة و"المحظرة" هي تمظهر تاريخي لهذا.

وقد مَحوَرت المدرسةُ النظام الدّيني: ولم تُمفصِله فقط. ففي الابتداء جُعِلت الأسبقيّة للمدرسة على المحظرة. وقد انتُزِعَ من المحظرة مجالُها الدنيوي وأُعطِيّت لتعاليمها صبغة أورادية طقوسيّة. وكان هدفها خلق ذوات تقيّة وعابدة. بينما أوكِل للمدرسة مجال التمهين والسببيّة والفعاليّة. صارت المحظرة ديناً؛ وصارت المدرسة دنيا. ولكنّ هذه لم تكن غير مرحلة أولى من العلمنة. فـ"الدِّين" يتعمّمَ بعد خوصَصتِه. وكان من تعميم المحظرة التحاقُها بالمجال المدرسي فأصبحت نظامية، تُخرِّجُ إداريين ومسيِّرين للشأن الديني. بيدَ أن هذا النوع من التمهين المحظري هو حصيلةٌ لتسويق الدِّين ورأسملتِه وتوزيعِه إلى نظام خدماتٍ يسمحُ بتعهيده وتجزئتِه. لقد جَعَلت المدرسةُ المحظرة على صورتِها.

وفي الحقيقة فإن القبائل المُحافظة التي حاربت التمدرس الاستعماري حاربت هذه العلمنة ورفضت أيّ تعليم بلا صبغة دينية. ولم تلتحق هذه القبائل بالتمدرس النظامي إلاّ بعد أن تفوّقت عليها القبائل "المتنصريّة". وقد قيمَ بصفقة جديدة. سيطرت "المدرسة" على الوقتانيّة الطبيعيّة: الدوام من الصباح حتّى المساء. أما المحظرة فقد أوكِلَ لها وقتٌ ديني من السَّحَر حتى قبل الثامنة صباحاً. وبعدها لا يعود الطلبة الذين جمعوا المحظرة بالمدرسة لها إلاّ بعد نهاية الدّوام أو في عطلة الأسبوع المدرسيّة، التي ليست عطلة محظريّة.

لقد ضُرِبت "قداسة" المحظرة هنا. ومن الموحي أنّ من يُدافِعُ اليوم عن "قداسة" المحظرة نافياًّ أن تُفرَضَ عليها قوانين البيروقراطيّة والرأسماليّة الحديثة، رامياًّ أن تكون فطرية، إنّما يفعل هذا دفاعاً عن محظرة بُرِقرِطت ومُهِّنَتْ قبل مولده. وإن انتقائيتَه ليست إلاّ تاريخيّة.

------------------

من صفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك