التمييز الثقافي | 28 نوفمبر

التمييز الثقافي

سبت, 11/19/2016 - 23:23

هل انتهى التمييز العنصري ضد المرأة في عالمنا العربي، وهل بات ينظر للمرأة عملا ووعيا وفكرا بشكل مساوٍ للرجل؟ وهل أصبحت المرأة العربية حرة في تفكيرها وفيما تقوم به من أعمال فلا تشعر بالاضطهاد أو العنف أو التميز في مكان ما، وبالتالي لم تعد بحاجة للكتابة عن همومها وشجونها؟
شخصيا لا أظن ذلك، ولا أظنه يحدث قريبا، فلا تزال الكثير من النساء ترزح تحت وطأة الظلم والقهر، ويعانين الويلات والآلام في حيواتهن الاجتماعية، في بيت والد أو زوج، وفي العمل من زملاء ذكور محملين بعقد المجتمع، وفي الشارع من متحرش جبان. إنها الحياة العربية التي تدركها المرأة جيدا، والتي لا تمنحها الكثير من الحرية أو الحقوق، كما يدركها الرجل الواعي أيضا، فقد ناله منها ما ناله ولعل كل ما يقع على المرأة من الرجل أحيانا أو غالبا، ما هو إلا تعويض نفسي عن القهر الجمعي أو الظلم المجتمعي الذي تعرض، أو ما زال يتعرض له.
ولكنها، أي المرأة العربية، حاولت عبر الزمن وماتزال تحاول بكل طاقتها وجهدها، ومن كل مواقعها العلمية والثقافية والاجتماعية كسر ذلك التمييز، وتغيير نظرة المجتمع لها، واستعادة بعض حقوقها الإنسانية التي وهبها لها الرب، فكان أن تحقق لها القليل من النتائج بعد كل ما قدمته من مكابدة ومثابرة لإثبات حقها في حياة عادلة، ولا أقول متساوية، وبل ما تحقق كان للبعض منهن فقط.
ومع انفتاح الكونية على ذاتها عبر الشبكة العنكبوتية تحديدا، وكثرة مواقعها، وما أتاحته من حرية الكتابة، وجمالية التدوين، وما وهبته للإنسان من مساحات ضوئية للتنفيس عن ذاته المكبوتة في مجتمع عربي ربى الكثير من الكبت لعقود طويلة للجميع رجالا ونساء، مع هذه الطفرة المعرفية والتكنولوجية خرجت الكثير من النساء عن صمتهن الذي امتد زمنا طويلا، وبدأن يستخرجن مسوداتهن من تحت الوسائد والشراشف، فأصبح الفضاء الرقمي صوتها في مقابل صوتها الحقيقي المتحشرج بالخوف، وأصابعها الحرة في مقابل تلك المشلولة بالقيد، ووجهها المتخفي خلف الضوء هذه المرة بدلا من البراقع الحاجبة. ولذا بدأنا نقرأ الكثير من المدونات والكتابات النسوية في غير موضع ومنتدى وفضاء رقمي، تلك المدونات والكتابات التي لم نكن لنقرأها من قبل.
وبالطبع ستكون الخطوة اللاحقة هي النشر لكتب تحكي هذه التجارب، وتؤرخ لتاريخ من الكبت الطويل، وتنتصر للحرية وللمرأة الجديدة، وللفضاء الشاسع الذي انطلقت فيه خطواتها نحو الحياة والبوح، وبالطبع ستتفاوت هذه الكتابات والتدوينات سواء منها المنشورة عبر وسيط رقمي أو عبر وسيط ورقي كالكتب أو الجرائد والمجلات بين كاتبة وأخرى وفق استعدادها وملكاتها وتمكنها من أدوات اللغة، ووفق المحيط الذي تعيش فيه والبيئة التي عاشت فيها، ووفق اشتغالاتها على ثقافتها ووعيها قراءة ودرسا وتأملا وتجاوزا للسائد.
فكان أن تلقّى الجمع هذه الكتابات، وكان التفاوت في التلقي أيضا، إما بالحفاوة المطلقة، والمنطلقة من دافع ما، من المؤسف أنه كان غريزيا في كثير من الأحيان، فلم تخلو من التملق والمدائحية، أو بالنقد الجارح الذي حطّ بشكل كلي من قيمة هذه التجارب التي قد تكون ممهدة لتجارب أخرى، ومؤرخة لزمن التحليق خارج شرانق الصمت. وهذا أمر يحتاجه علماء الاجتماع وعلماء النفس أكثر من الناقد الأدبي والثقافي، وفي كلا الأمرين تمييز ثقافي وجنسي واضح.
واستمر الفعل الكتابي للمرأة بشكل حقيقي ومشرّف كما وكيفا، وتجاوزت الكثير منهن ربكة البدايات واشتغلن بالعميق والحقيقي من الكتابة، والبحث في الداخل حيث تدوين الذات الذي لا يمكن أن يكون إلا من صاحبها، وفي الخارج القريب الذي هي جزء منه كالرجل تماما، بل قد تفهمه أكثر لاهتمامها بالتفاصيل واقترابها من عوالمها اقترابا حسيا جارحا، كما ولدت أجيال جديدة حرة وحية خارج مناطق الكبت والقهر فدونت تجاربها أيضا، واقترفت فعل الكتابة كحالة إنسانية فقط. هذا ناهيك عن ظهور  الكثير من الباحثات والناقدات والفنانات والمبدعات المتميزات في شتى المجالات.
غير أن التمييز العنصري ضد المرأة في عالمنا العربي المتخم بكل أنواع العقد ما يزال مستمرا وفي كل مناحي الحياة ومجالاتها تقريبا، ولذا كان التمييز الثقافي أو اللغوي أحد أشكال هذا التمييز، ويمكننا أن نحدد هذا التمييز أو نعرّفه بما يظهر بين الفينة والأخرى في كتابات بعض الكتاب والنقاد والصحافيين، من إطلاق أحكام عامة حول كتابة المرأة، واتهامها بالضعف أو الجنسانية أو مهاجمة الرجل، مع تحقير مما تكتبه، والموازنة غير العادلة مع كتابات الرجل لصالح الأخير طبعا. فعبر إطلاق أحكام عامة وكلية، وخارج أي تحليل، أو بيان لمواضع الضعف، أو تعيين الخلل أو الوهن، أو التمثيل والاستشهاد ببعض النصوص لإضفاء العلمية والدقة، يقدمون رؤية ناقصة لكتابات المرأة ويضعونها بشكل سلبي تحت ما يسمى بالأدب النسوي، وهو فخ وظّف عربيا ليضع كل كتابات المرأة في سلة واحدة، دون تفنيد للمصطلح أو المفهوم أو حتى للنص.
وبالطبع لا يمكننا أن ننكر أن هناك كتابات نسائية تافهة وساذجة، وما هي إلا مزيج من الثرثرة والسخف، ولكن ألا توجد كتابات رجالية ذكورية تافهة أيضا؟ وألا توجد كتابات نسائية عميقة وجادة؟ فالتباين سنة الحياة والعلم والوعي والثقافة والمعرفة.
إذن نعم هناك كتابات نسائية ساذجة ومراهقة وجنسانية أحيانا، وتتخذ من مظلومية المرأة سلما هشا للكتابة، وتتمحور حول صورة وحيدة للرجل وهي صورة الظالم والقاهر، والكاسر لقلب المرأة، وصورة وحيدة للمرأة وهي تلك الضعيفة والمظلومة. ولكن وضع البيض في سلة واحدة، وإطلاق أحكام مطلقة على كل كتابة للمرأة؛ هو أيضا نوع من السذاجة، إضافة إلى كونه نوعا من التمييز والعنصرية الثقافية والعلمية والمعرفية المقيتة، والتحيّز الأعمى اللامنهجي واللاموضوعي ضد كل كتابات المرأة.
إن إصدار حكم عام بالضعف أو النسوية على كل كتابات المرأة، عبر قراءة بعض ما أنتجته فقط، يعد نوعا من التمييز الجنسي الثقافي ضد المرأة، فتلك القراءات مهما اتسعت وتعددت، ومهما عظم قارئها واتسعت ثقافته، تبقى جزئية ومحدودة وناقصة لتقديم حكم شامل، أو صورة كلية، كما أن مقارنة ما تنتجه بما ينتجه الرجل هو نوع من الإجحاف للطرفين. وهو إبراز للتمييز الذي يتصدّر عالمنا العربي في كل المجالات؛ للون أو العرق أو الدين أو المذهب والذي ربما اخترع شيئا جديدا، إن لم يجد ما يتحيز به ضد الآخر، وكأنه سمة عربية لا يحدها ولا يمنعها أن يذهب الشخص في اتجاهات رفيعة كالعلم والثقافة والمعرفة.
فمن المؤكد والراجح أن هناك الكثير من الكاتبات الرائعات والحقيقيات البعيدات عن تدوين التفاهة والجنسانية والمظلومية، وغيرها من مخلفات الفهم الخاطئ للنسوية، وقد أنتجن من الأعمال ما يستحق الاحترام والخلود معا، تماما ـ وكي لا نضع هنا أيضا البيض في سلة واحدة ـ كما أن هناك الكثير من النقاد الذين أمسكوا بمشرط الجراح بعدل ومعرفة ووعي، وأمعنوا في نصوص المرأة قراءة وعمقا وتحليلا، وأعطوها حقها من التقديم والتحليل والنقد، وبالتالي وضعوا الأمور في نصابها، بعيدا عن الأحكام الجاهزة، والكتابات التمييزية، والنقد العنصري. كما كان هناك الكثير من الرجال الذين وقفوا مع المرأة في عبورها لهذه الحياة، وساندوها للخروج من شرنقة الجهل المجتمعي، ومن مظلومية التاريخ الطويل والقهر الممتد. وهذا ما يجب أن نؤمن به، ونتحيز له فقط.

كاتبة عمانية