العرب والغرب والفرق (ليس) نقطة | 28 نوفمبر

العرب والغرب والفرق (ليس) نقطة

سبت, 02/04/2017 - 18:44

زهير أندراوس

رأى خليل السكاكيني، ‏أحد روّاد القوميّة العربيّة، أنّ “الإسلام أضرّ بالعرب، كما أضرّت النصرانيّة بالغرب. مَنْ يُراقب تطوّر الأمم يرى أنّ الأمم تسير من الدين إلى الأدب إلى العلم، ويظهر أنّ الغرب في دوره الثالث، وأمّا الشرق فلا يزال في دوره الأوّل”. من ناحيته، أكّد حكيم الثورة، الشهيد د. جورج حبش:”لسنا ضدّ مَنْ يقتدي بالدين، بل ضدّ التطرّف الدينيّ”. أمّا مؤسس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، أنطون سعادة فرأى أنّ “اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض”. بناءً على ما تقدّم، يُمكننا محاولة سبر غور ظاهرة التخلّف في الوطن العربيّ، مُقارنةً بالغرب، والتساؤل بصوتٍ عالٍ: هل سيطرة الخطاب الدينيّ المتزمت والمُتشدد على جميع مناحي الحياة، وكنتيجةً لذلك، تقهقر الخطاب القوميّ، هو السبب؟ ولماذا بات القوميّ العربيّ “يُتهّم” بالرومانسيّة السياسيّة، كلّما ذكر أوْ استذكر أوْ استشهد بالقائد، المُعلّم والمُلهم، جمال عبد الناصر؟

***

قبل الولوج في التعاطي مع هذه الظاهرة، نرى أنّه من الأهمية بمكان التشديد والتذكير بأنّ أوروبا، كانت رجعيّةُ وشموليّةً بالمعني الحقير للمصطلحين، بسبب تبعيتها المُطلقة للكنيسة ولمؤسساتها الخبيثة والساقطة، وفي مٌقدّمتها محاكم التفتيش، التي لم تتورّع عن إنزال أقسى العقوبات بكلّ مَنْ خالف تعليماتها. وكانت تستخدم وسائل التعذيب في حقّ مَنْ كان يُظنّ أنّه من الهراطقه، أيْ مَنْ كان يتبنّى معتقدًا أوْ نظريةً مُحرضةٍ تتعارض بقوّةٍ مع المعتقدات أوْ الأعراف السائدة. ولجأت محاكم التفتيش أيضًا إلى استعمال أبشع أساليب العقاب، بما في ذلك، قطع أوصال الناس وحرقهم أحياءً، فوصلت الأعداد التي تمّ تعذيبها 300 ألف من البروتستانت ومائة ألف بلغاريّ وفرنسيّ وأرثوذكسيّ.

***

هذا الوضع المأساويّ، دفع الشعوب الأوروبيّة، إلى إعلان العصيان والثورة ضدّ ظلم الكنسية وغبنها التاريخيّ وظلامها الدامس. ونجحت الشعوب التواقّة للحريّة في التخلّص من سطوة الكنيسة وأذرعها المُتخلفّة، وباتت الطريق مُعبدّةً نحو الحرّيّة. أوروبا دخلت حقبة الديمقراطيّة وما زالت، بغضّ النظر وبصرف الطرف عن مواقفها المتملقة للحركة الصهيونيّة ولصنيعتها إسرائيل، التي أُقيمت بدعمٍ من الغرب على حساب شعبنا العربيّ-الفلسطينيّ. كما أننّا لا يُمكننا التغاضي عن أنّ دول القارّة العجوز تتعامل مع اللاجئين الوافدين من دول العالم الثالث بشكلٍ أخلاقيٍّ، على الرغم من أنّ اليمين الفاشيّ في تنامٍ مُستمرٍ فيها. والشيء بالشيء يُذكر: تعامل الدول الأوروبيّة مع الأقليّات العربيّة والإسلاميّة هو أفضل بكثير من تعامل دولة الاحتلال المارقة بامتياز، إسرائيل، مع الأقليّة العربيّة-الفلسطينيّة داخل ما يُطلق عليه الخّط الأخضر، على الرغم من أنّ هذه الأقليّة هي أقليّة أصلانيّة، كانت في فلسطين قبل قدوم الصهاينة، وستبقى فيها، وهذه حتميةً تاريخيّة، ما بعد بعدهم.

***

إذن أوروبا تحررت وتدمقرطت عندما كنست الكنيسة الرجعيّة، وفصلت الدين عن السياسة/الدولة. وبما أنّ التاريخ يُعيد نفسه، في المرّة الأولى كمأساةٍ، وفي الثانية كمهزلةٍ، كما قال ماركس، فحريٌ بنا الالتفات إلى نضال شعوب أمريكا اللاتينيّة، التي ذاقت الأمّرين من الحكم الاستبداديّ، الذي كان مُرتبطًا وتابعًا بالمُطلق لرأس حربة الإمبرياليّة وراعية الإرهاب العالميّ، أمريكا. كما أنّ الأنظمة الدكتاتوريّة في تلك الدول، كانت مدعومةً من المؤسسة الكنسيّة الكاثوليكيّة الرجعيّة. وعلى الرغم من ذلك، تمكّنت الشعوب بتضحياتها الجسام من الانتصار على الثلاثيّ غير المُقدّس: الأنظمة الدمويّة، أمريكا والكنيسة الانتهازيّة.

***

اللافت أوْ بالأحرى، عدم اللافت، أنّه مع ذلك، أوْ ربمّا رغمًا عن الضربة القاضية التي تلّقتها أمريكا وحليفاتها في ساحتها الخلفيّة، وعلى وجه التحديد في فنزويلا، لم تتمكّن “رأس الأفعى”، كما وصفها حكيم الثورة، الشهيد د. جورج حبش، لم تتمكّن من تأسيس وإنشاء تنظيماتٍ إرهابيّةٍ تعيث في الأرض فسادًا، وتحرق البشر والحجر، لكنّها، والحديث عن أمريكا، لم تألُ جهدًا في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لأنّ مصالحها السياسيّة والاقتصاديّة تعرّضت لسقوطٍ مُدّوٍ، وما زالت تُحاول الرجوع بهدف إحكام سيطرتها مرّةً أخرى على هذه الشعوب، بواسطة سياسيين انتهازيين، لا يختلفون البتّة عن عملاء العرب، الذين وصلوا إلى الحكم في العراق، على ظهر الدبابات الأمريكيّة-البريطانيّة، إبّان غزو بلاد الرافدين في العام 2003 بذريعةٍ كاذبةٍ وهي أنّ النظام الحاكم آنذاك كان يمتلك أسلحةً غيرُ تقليديّةً.

***

الآن، وصلنا بيت القصيد ومربط الفرس في المقاربة والمقارنة: أمريكا وإسرائيل والرجعيّة العربيّة، أيْ الثالوث الدنّس، أسسّوا “داعش” الإرهابيّ-الإجراميّ، ودعموا وما زالوا يدعمون التنظيمات الإرهابيّة الدمويّة في سوريّة والعراق، وخلاياهم النائمة في العديد من البلدان العربيّة. وهذه التنظيمات، ما زالت تُسّمى في أدبيات الطابور السادس الثقافيّ، بأنّها ثوريّة للتحرر من الـ”طاغيّة بشّار الأسد”، وهذا الموقف من مُثقفي البترودولار ينسجم مع مقولة لينين المأثورة: المثقفون هم أقرب الناس إلى الخيانة، ذلك أنّهم أقدر الناس على تبريرها. وغنيٌ عن القول إنّ الإرهابيين الذين وصلوا إلى سوريّة يخوضون الحروب بالإنابة ويُشعلون الـ”ثورات” بالوكالة لتفتيت الوطن العربيّ وإخراج مخطط الشرق الأوسط الجديد إلى حيّز التنفيذ، وفي مُقدّمته تكريس أمن إسرائيل وترسيخ تفوقها العسكريّ-الاقتصاديّ-التكنولوجيّ، والإجهاز على ما تبقّى من فلسطين.

***

السؤال الأهّم: لماذا نجحت أمريكا في المشرق العربيّ، بينما فشلت في أمريكا اللاتينيّة؟ بكلماتٍ أخرى: لماذا نجح الاستعمار في استحمار الأمّة العربيّة، أوْ تحديدًا السواد الأعظم من أنظمتها؟ ما هي الأسباب التي تمنعنا، نحن العرب، من التقدّم كما حدث في أوروبا؟ هل العامل الدينيّ هو السبب؟ أمْ أننّا أصبحنا مُدمنين على العبوديّة والتبعيّة المُطلقة للاستعماريّ الأجنبيّ، التركيّ، الأوروبيّ وغيرهم؟ مَنْ ظهر أولاً ومَنْ أوجد مَنْ: العبد أمْ السيد؟ هل السيد مَنْ صنع العبد نتيجة لسلوكه العبوديّ أمْ العبد مَنْ صنع السيد نتيجة لاستبداده؟ كما طرح هيغل في جدلية العبد والسيّد.

***

خلاصة: مهما يكُن من أمرٍ، أكاد أجزم، أنّ علمنة المجتمع في الوطن العربيّ، بمعنى فصل الدين عن السياسة/الدولة، وتحقيق الدولة الوطنيّة، ما يعني أنّ قيام الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحديثة مشروط بتفكك البنى والعلاقات التقليديّة، وذلك عن طريق اندراج الأفراد في بنى وعلاقات حديثة، مهنيّة ونقابيّة وحزبيّة وتنظيمات مدنية مختلفة، يعيِّنها نمو الإنتاج الاجتماعيّ، من دون أنْ يتخلوا عن الإثنية أو الدينية أو المذهبية، وتحديداتهم الذاتيّة. كما أنّه يتحتّم على الأمّة العربيّة من محيطها إلى خليجها، التحرر من التخلّف والتبعيّة المُطلقة للغرب الاستعماريّ، عن طريق تغليب الانتماء القوميّ/ الوطنيّ على الانتماء الدينيّ-المذهبيّ، لأنّ هذا الأمر، باعتقادي المُتواضع جدًا، هو الحلّ الوحيد للنهوض بالأمّة العربيّة إلى الأمام، واللحاق بقطار الحضارة، الذي أطلق صفارّات الإنذار إيذانًا بانطلاقه إلى غير رجعةٍ، وغير ذلك، سنبقى أسرى ورهائن للعولمة، أيْ انتشار النمط الأمريكيّ والغربيّ في العالم، وسنُواصل للأسف، نحن الناطقين بالضاد، التقدّم بخطى واثقةٍ وحثيثةٍ نحو العصور الحجريّة.

كاتب عربيّ-فلسطينيّ