الغربُ قبيلةً | 28 نوفمبر

الغربُ قبيلةً

أحد, 05/14/2017 - 02:17
عباس ابرهام

 يذكُرُ فوكوياما، بتبسيطاتِه المعهودة، من حينٍ لآخر أن الكنيسة قامت مقامَ القبيلة والعشيرة في الغرب؛ بينما بقيَت القبيلة والعشيرة في أجزاء واسِعة من "الشرق"، بما فيه شرقُنا المتوسِّط، ولكن ليس "الشرق الأدنى" الذي له إرث مؤسّساتي كبير. وبالنسبة لفوكوياما فإن هذا التبسيط مدخُلٌ أساس لفهم "النظام السياسي": ففي الغرب والصين بُنيَ على المؤسّسات لأن العشيرة ماتت على أنقاض الكنيسة؛ بينما في غيرهما بُنيَ على الإرث، لأن الدِّين ظلّ قبيلة. فغدا الأول غير مُشخصَنٍ (impersonal)؛ وغدا الثاني إرثياً (patrimonial).

عموماً نحن في الإنسانيات لا نحترِمُ كثيراً طريقة أهل العلوم السياسية في تشخيص المجتمع. وما زلنا نجِدُ فيها علموية مُزِعجة. إلاّ أن هذا ليس اهتمامي حالياً. ما أودُّ أن أنتبِهَ إليه هو نوعٌ مُعيّنٌ من قبائلية وعشائرية الغرب. فالغرب، بالذات لأنه تخلّصَ من القبيلة، أصبَحَ يتصرّفُ كأنه قبيلة: وهي قبيلة "الذين تحرّروا من القبيلة". فعندما يُعتقَلُ غربيٌ خارِج الغرب تنهضُ الحمية القبلية الغربية لاستنقاذِه وفدائه من براثِن القبائل البربرية التي تتخطّفُه. ويحدُثُ أحياناً أن يكون الغربي المُعتقَلْ في موريتانيا أو العراق أو مالاوي مجرِماً بالفعل. ولكنه يظهَرُ في الإعلام الغربي كما لو أنّه ضحية البربرية وعدم العدالة. فقط في الغرب، حيث العدالة حقيقية وغير شخصية وغير إرثية يمكن أن يكون الغربيَ مُجرِماً وتكون إدانتُه حقيقية. أما إذا كان مُجرِماً في غير الغرب فلا بدّ أن إدانتَه متوسّطة بالعصبية الدِينية أو العرقية أو مُرتبِطة بابتزاز الغرب ولا بدّ أن أوامر عُليا أوصت باعتقاله. ولا بدّ أن سِجنه سياسي. في غير الغرب لا توجَدُ دول؛ بل توجد قبائل. وقوانين القبائل ليست حقيقية؛ بل هي عصبيات مما قبل العقل.

وسرعان ما يصعد السجين/البطل إلى الصفحة الأولى. وتقوم حملة مكوكية من الحقوقيين ثم المسؤولين الغربيين إلى البلد البربري. وتُصعِّدُ التقارير عن وضعية السجن من حالة التعاطُف الغربي مع السجين. ففي السجن البربري لا يقدر الغربي أن يواصِل حياته كذاتٍ غربية عقلانية: لا توجد مكتبة ولا تلفزيون ولا ألعاب فيدو ولا توجد قاعة للرياضة ولا هاتف. وسرعان ما يكون مثالاً على الغربي الممنوع من ذاتِه: الممنوع من العقلنة والعدالة، وأخيراً من ذاته. فذاتُ الغربي هي سلسلة من العقلانيات بما فيها الرفاهية. وبالفعل يُحلِّلُ الوزراء والحقوقيين الغربيون أن الاعتقال هو ابتزاز للغرب. لذا يعرضون مباشرة فِدية متمثِّلة في عفو عن الفوائد أو في تمويل برنامج معين للبلد البربري. أول من انبَه لهذا هو القاعدة التي استثرت من افتداءات الغرب لمواطنيه.

ويبدو أن هذا يُحوِّل اقتصاديات الدول، التي أصبح بعضها يتبنّى استراتيجيات القاعِدة. ويحدُث أحياناً أن أمير البلد البربري في حاجة لبعض المتنفسّات فيقترِح افتداء السجين ببعض الاستثمارات الغربية. ويعود السجين الغربي إلى بلده على صهوة جوادٍ وتتتلقّاه الجموع. ويكتب لاحقاً مذكِّراته عن بلاد البرابرة. في الغرب يستعيد إنسانتَه وذاته ويغدو رمزاً للنجاة من أنظمة الإرث والعودة إلى أنظمة الإنسان المُجرّد. إلى العدالة.

------------------

من صفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك