عن التواضع | 28 نوفمبر

عن التواضع

أربعاء, 06/21/2017 - 02:02

يوجد في الفضاء العام جنودٌ سخّرهم الله لحماية التواضع. والهدف الأساس الذي يروم هؤلاء الحفاظ عليه هو منع "البلكّة" و"التكبّر". فالغرور حسب هؤلاء هو المثلبة الكبرى ورأس الشرور. وعادةً ما يركبون الأوسام والهشتقات وينفرون مع خيل الله ضدّ "الاوغاد" "المتكبِّرين". ويقوم هؤلاء الشُّرط الأخلاقيون بحراسة المعاني العامة؛ فلا يرون رأساًَ مرتفِعاً إلا وطأطؤوه ولا نصباً كبيراً إلاّ وسوّوه بالتراب.

وفي الحقيقة فإن برنامِجهم اليومي مليئ حتى المساء. فهنالك الشعراء الذين قد يتكلّمون يوماً بلغة المتبي ويروون في أنفسِهم آخر الشعراء الكبار. وهنالك بعض من يرفض النزول بالمستوى. وهنالك من يعمل بمقتضى قوانين النديّة، فلا يلتفِت للصياصين والغِلمان السّذج. وهنالك من يؤكِّدُ حريته في صفحتِه. وهنالك من يمارِسُ حقّه في الحظر. وهنالك من يتصرّف بمقتضى أنه شخصية عامة وأنّه "مُهِّم". وكلّ هؤلاء هم "كلوة وفرسن" و"طير وبخنوس" ومن شِعاب متفرِّقة وتصانيف شتّى. ولكن: الويل لهم جميعاً. يجب سحلُهم بالهشتقة وبالنفير العام. والواقِع أن الهشتقة هي مراكيب السُذّج. فالشعارات تُغلّفُ في مبدأ كوني ظاهري؛ وبالتالي يمكن لآلاف متوسِّطي الذهن والمبتدئين أن يركبوا فيها؛ ويصير لحياتِهم معنىً بامتطائها.

والواقِع أن الحملة الصليبية ضدّ "البلكَة" هي من "شيّم الزوايا"، وليست لها خصوصية أخلاقية كونية (على أساس أنه توجد قيّم كونية أصلاً). فالزوايا (وقد بيّنتُ مِراراً أن "الزوايا" هي القيم الأخلاقية المعيارية للحداثة الموريتانية، وليست فقط قِيماً ذات حيّز أنسابي أو جغرافي) يرفضون التباهي بالعِلم. ومن الأفضَل أن يكون العالِم أشعثَ أغبر. وهنالك تناقُضٌ بين العِلم والأناقة (إن لم يكن التهندم). ومن المفيد للعالِم أن يُغبِّر ويُغمِّض عِلمه في التواضُع وعدم طلب المكانة أو تأكيدِها ولا يحقُّ حتى للمثقّف أن يُعرِّفُ نفسه أنه مثقّف. فهذا تصنيفٌ يجب أن يأتيَ من الخارِج، لا من الذات. أما تأكيدُه والعمل بمقتضاه فهو خيلاء وغرور.

إن الهشتقة هي أحياناً هي وسيلة تأديب اجتماعي. وليس التواضُع دوماً أخلاقاً كانطية محبوسة في صدر الفرد؛ وإنما هو سلطة فوكوية لإنتاج الذات وإعادة إنتاجها وحوْكمتها. ويبدو أحياناً أن جنود التواضع هم ذواتٌ حداثية غير عشائرية بينما هي لا تُقدِّمُ نفسها إلاّ في شكل عشائري. وهذه هي أحجية البضاعة. البضاعة لا دينية، ولكنها لا تٌقدِّمُ نفسها إلا في شكل ديني.

_________

من صفحة الأستاذ عباس برهام على الفيس بوك