لا نَعتقد أن السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان المُستقيل، أقدم على خُطوةِ استقالته هذه لأن حياته كانت مُعرّضة للخَطر، فالرّجل كان يتجوّل في بيروت بشكلٍ طبيعي، ووقّع قبل أيّامٍ معدودةٍ عدّة مراسيم، أبرزها تعيين سفير لبنان جديد في سورية، مُضافًا إلى ذلك أن الجهة المُحتملة للإقدام على تنفيذ عمليّة اغتياله، أي حزب الله، كانت تُوفّر له الحِماية، ووَصل إلى رئاسة الوزراء عبر صَفقةٍ سياسيّةٍ مَعها.
استقالة السيد الحريري تأتي في إطارِ خريطةِ طريقٍ سُعوديّة أمريكيّة تَستهدف “حزب الله”، الذّراع العَسكري القَوي لإيران الذي بات يُشكّل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل، وخطرًا كبيرًا على أمن المملكة العربيّة السعوديّة واستقرارها بسبب دَعمه اللامحدود، الإعلامي والسّياسي، والعَسكري لتيّار “أنصار الله” الحوثي، وهو الدّعم الذي كَبّد السعوديّة خسائرَ بشريّة كبيرة في حُدودها الجنوبيّة، وبات يُهدّد هَيبتها بضَرب عُمقها بصواريخ باليستيّة مُتطوّرة بين الحين والآخر نَجح بَعضها في إصابة أهدافه، كان آخرها مساء اليوم السبت على مدينة الرياض.
المَعلومات المُتوفّرة لدينا تُفيد بأنّ المملكة وبالتّنسيق مع الرئيس ترامب، تَعكف حاليًّا على تَشكيل تحالفٍ عربيٍّ، على غِرار نَظيره في حرب اليمن، يكون رأس حِربة في الهُجوم المُتوقّع على “حزب الله”، ومن غَير المُستبعد أن تكون إسرائيل العمود الفِقري لهذا التّحالف، وتردّدت أنباء في لندن أن اتصالات سِريّة سعوديّة جَرت مع الأردن تضمّنت دَعوته للانضمام إلى الحِلف الجديد، ولكن هذهِ الأنباء لم تتأكّد من أيِّ مَصدرٍ رسميٍّ، أو حتى شِبه رَسمي.
***
لا تَستبعد المَصادر التي تحدّثت لنا احتمال أن يتزامن، أو يتوازى، أي تصعيد ضد “حزب الله” في لبنان، مع تصعيد عسكري آخر ضد قطر في حال الحُصول على ضوءٍ أخضر أمريكي، وقد بات وشيكًا، وقالت أن هناك سبعة آلاف جندي مصري من القوّات الخاصّة عالية التدريب تتواجد حاليًّا في قاعدة في شمال إمارة أبو ظبي، وعلى بُعد 40 كيلومترًا من الحُدود القطريّة جاهزة للتدخّل عَسكريًّا، والضّوء الأخضر الأمريكي ضروري، بل حَتمي، لأن عدد القوّات التركيّة في قطر ارتفع في الأسابيع الأخيرة إلى حوالي 30 ألف جندي.
لَهجة الهُجوم التي استخدمها السيد الحريري على إيران، وتضمّنت اتهاماتٍ بالإرهاب والتّخريب، وتهديدات بقَطع الأيادي التي تمتد إلى الأمّة العربيّة بالسّوء، لهجةٌ غير مَسبوقة، وتأتي استكمالاً لهُجومٍ آخر شَنّه الوزير السعودي تامر السبهان، وَصف فيه “حزب الله” بحزب الشيطان، ووَصف السيد حسن نصر الله، زعيمه، بأوصافٍ خارجةٍ كُليًّا من الأعراف السياسيّة والدبلوماسيّة.
السيد الحريري استدعي إلى الرياض على عَجلٍ، وطار إليها في غُضون ساعاتٍ مَعدودةٍ، بعد أن ألغى جميع ارتباطاته الرسميّة، ولا نَستبعد أن تكون هذهِ الاستقالة قد أُمليت عليه، وكذلك نص الخِطاب العَنيف الذي ألقاه وبثّته قناة “العربيّة” وليس قناة “المُستقبل” التّابعة له، ممّا يُؤكّد أن ولاءه للسعوديّة، الذي لم يُخفه أبدًا، يتقدّم على ولائه للبنان، ولا نَعتقد أنّه سَيعود إلى بيروت إلا على ظَهر دبّابة سعوديّة في حال نَجحت الخُطّة في القَضاء على “حزب الله”، وتدمير إيران، واحتلت القوّات الإسرائيليّة بيروت مَرّةً أُخرى.
إعلان الحَرب على “حزب الله” لا يُمكن أن يتم إلا بالتّنسيق الكامل مع إسرائيل، لأن السعوديّة لا تَستطيع خَوض حَربين في آنٍ واحد، في اليَمن ولبنان، وربّما إيران، مُضافًا إلى ذلك أنّه لا توجد حدودٌ جُغرافيّة بين المملكة العربيّة السعوديّة ولبنان، بالإضافة إلى أن حُلفاؤها أضعف من أن يَهزموا “حزب الله” الذي بات يَملك خُبرات ومُعدّاتٍ عَسكريّة لا تَملكها إلا أربع دول في المِنطقة، هي مصر والإمارات وسورية إلى جانب السعوديّة.
السيد نصر الله، أمين عام حزب الله، لم يَنطق عن هَوى عندما حَذّر بينامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، من شنِّ أيِّ حربٍ على لبنان، وطالب اليهود بالهُروب من فِلسطين المُحتلّة إلى الدّول التي جاءوا مِنها للنّجاة بأرواحهم، لأنّهم سَيكونون وقود أيِّ حربٍ مُقبلةٍ، فلا بُد أن الرّجل الذي يَملُك بنوك عُقول جبّارة، يَملُك مَعلومات مُفصّلة، بل ومُؤكّدة، حَول الطّبخة السعوديّة الأمريكيّة.
طُبول الحَرب بدأت تُقرع في الرّياض، وتَصل أصداؤها إلى المِنطقة كُلّها، واستقالة الحريري إحداها، السؤال هو متى سَتنطلق الشّرارة الأولى وليس أين، فلبنان الذي عاشَ عامين بدون رئيس جمهوريّة، يَستطيع أن يعيش بدون رئيس وزارء أو حُكومة، والأطراف التي تَقف في الخَندق المُقابل تَعرف هذهِ الحقيقة جيّدًا، ولهذا قد تتحرّك سريعًا، بدايةً بشلِّ النظام المَصرفي اللبناني، تمهيدًا لشلِّ الاقتصاد، وكمُقدّمةٍ لحِصارٍ خانقٍ شبيهًا بالحِصار المفَروض حاليًّا على اليَمن تَلعب فيه البوارج الإسرائيليّة والأمريكيّة دورًا كبيرًا.
***
إنّها مُقامرة سعوديّة أمريكيّة غير مَحسوبة العَواقب، ودُخول إسرائيل ميدانها قد يُكلّفها غاليًا، فهذهِ الحَرب، قد تَكون آخر الحُروب في المِنطقة، تمامًا مِثلما كانَ عليه حال الحرب العالميّة الثانية، التي أنهت الحُروب الأوروبيّة إلى غيرِ رَجعةٍ، وقامَ على أنقاضها الاتحاد الأوروبي.
لا نَعتقد أن إسرائيل، التي خَسرت جَميع حُروبها مُنذ عام 1973، ستَخرج مُنتصرةً منها، فمِحور المُقاومة استعدّ لها جيّدًا، وقُدرات حزب الله أضخم أضعاف المرّات بالمُقارنة مع نَظيرتها أثناء حرب عام 2006، مُضافًا إلى ذلك أن سورية وإيران والعِراق، وآلاف المُتطوّعين من مُختلف أنحاء العالم الإسلامي ستُشارك فيها، ولا نَنسى أيضًا حركة “حماس″ التي استعادت علاقاتها كاملةً مع إيران والسيد نصر الله.
أجواء لبنان الحاليّة تَتطابق مع نَظيراتها قُبيل الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، مع فارق أساسي أن حزب الله ليس مُنظّمة التّحرير الفِلسطينيّة، فلبنان أرضه ووطنه، ولن يَركب البَحر إلى قبرص وتونس، وسيُقاتل حتى الرّصاصة الأخيرة، وسيَستخدم كل ما في جُعبته من أسلحة، المُحرّم مِنها والمُحلّل، لأنّها آخر مَعارِكه الكُبرى.
لا أحد يُريد الحَرب أو يتمنّاها، ولكن إذا جَرى فَرضها على مِحور المُقاومة، فإنّ النّتائج قد تَكون مُختلفةً هذهِ المرّة عن كُل سابقاتها،.. والأيّام بيننا.