على غرار الدول الناطقة بالعربية احتفلت موريتانيا باليوم العربي للغة العربية. و بهذه المناسبة العظيمة نظم المركز الموريتاني للغة العربية و مكتب اللجنة الوطنية للتربية و الثقافة و العلوم بنواكشوط حفلا تكريميا لافتا لعدد من الذين أسهموا و يسهمون في التمكين للغة "الضاد" و إن بقيت قامات أسهمت و تفعل بجهد رفيع أخطأتها عن غير قصد يقينا سهام الاختيار، و هو الحفل البهيج الذي يليق بمكانة لغة الضاد السامية و يتيح فرصة ثمينة لتدارس أحوالها. و أما الذي نظم حولها من محاضرات و ألقي من خطب، و أثير حول مناقبها و قيل بحق مكانتها و علو شأنها من بالغ التثمين على ألسن الخطباء و المفوهين و الشعراء و المبدعين فكلام على جودته وغزارته ظل دون ما تستحق و ما يتطلبه كل احتفاء بها.
و لكن بعيدا عن هذا الوجه الجميل فإن اللغة العربية تعاني، في واقع الأمر، معاناة شديدة في ظل تشظيها السلبي الناتج عن تشظي أقطار الأمة و تأخر شعوبها العلمي المزمن و ما أفرزه بالنتيجة من نواقص و عراقيل في سبيل انتشالها من مأزق تأخر أهلها؛ نواقص و عراقيل من أهمها:
· انحسار العمل الضعيف بها كتابة دون النطق في النخب من خريجي تخصصات العلوم الإنسانية و الدينية و الأدبية،
· و شبه غياب إرادة حملها على الالتحام بالعلوم العصرية و الإبداع في المجالات الهندسية و الصناعية و الفنية و في العلوم الإنسانية بمفاهيمها الجديدة وآفاقها المفتوحة على كافة الثقافات و العقليات، مع العلم أن ما يكون استثناء من ذلك غالبا ما تختطفه بعد حين اللهجات باضطراباتها و ضعف تقديرها للعلوم وسوء ضبطها و قصورها عن تنظيم و تهذيب قاموسها.
و أما في بلاد "المليونيات" فإن اللغة العربية تعاني من سلبية "الزهو" الزائد لدى أهلها بـ"الألمعية المضخمة" و "الاستعلاء" المنحرف عن آدابها و روحها السامية المتمثلة في "تواضع" التَّرفع عن "دناءات" النفس و تكبرها؛ زهو يدحضه واقع غياب العمل و الإنتاج بها إلى جانب ضعف التواصل بها على النطاقين العلمي و المدني الحضاري.
وعلى قدر التذكير، في المحافل و اللقاءات و الندوات، بفضلها الرباني المتفرد و مكانتها العالية و جمالها الأخاذ و سحر بيانها الآسر و ثرائها المشهود، يأتي العجزُ "ساحقا" عن التواصل بها و عن تجسيد كل الصفات الأنفة الذكر في صور بلاغية مناسبة و رسائل كلامية بليغة تؤصلها على الألسن و تبعثها إلى عوالم التفاهم و التبادل و الإبداع والمشاركة في التجارب الإنسانية.
ففي الوقت الذي يملك فيه بعض مثقفي البلد الجرأة الكبيرة على اتهام اللهجات العربية الأخرى ـ و قد تخلص معظمها من التأثيرات المخلة في المفرد و السياق حتى تهذبت و أخذت قدرا من الاقتدار على مجارات لغات الصف الأول ـ بمنعها التمكين للفصحى، يكاد أهله يتجاهلون بأن دورهم في ذلك لا يقل "أذية" لها ضمن نفس الاعتبار مع فارق أشد وطأة عليها في هذا المنكب البرزخي من غيره في اللهجات العربية الأخرى لكثرة اختلاطها بـ:
· باللسان البربري الذي يتم التنكر لوجوده علنا و هو دامغ الحضور في الواقع و المحيط لكونه جزء أصيلا من الهوية و قد كان من الأولى أن يُعلن عنه مصدر اعتزاز و مبعث اعتداد في سياق تنوع روافد البلد الثقافية و تراثه الحضاري،
· المفردات الفرنسية، و قد غذت و أغنت قاموس اللهجة المحلية التي تدعى"الحسانية" بعيدا عن تسميتها بـ"العربي" كما هو الحال في كل الأقطار العربية الأخرى، و هي اللغة الفرنسية التي تُلعن صباح مساء في متابعتها لثأر قديم يسكن بعض النفوس من حقبة ولت أكل التراب رفات أصحابها من المستعمرين و حفظ التاريخ في ذاكرته ملاحم و أسماء الأبطال الذين قاوموهم بالإيمان و السلاح و المعرفة،
· و ما وصل و تسرب إليها و ترسخ من لغات مكونات البلد "الزنجية" الأخرى نتيجة إملاءات لا إكراهات التلاقح و التعايش و التبادل الحضاري التي يفرضها جميعها منطق الأشياء، و لم تكن يوما عيبا أو معرة بل شكلت عبر العصور مصدر ثراء و تفتح أكثر على أرحب الآفاق المعرفية و الحضارية و التجارب الإمسانية. و إنه لفي القرآن الكريم أسوة ذلك الحسنة حيث يحتوي مصحفه الشريف الطاهر على عشرات المفردات المنتمية إلى لغات أعجمية عديدة.
· السخرية "السادية" من الذين يرتكبون بعض الأخطاء الإملائية حين الكلام أو قراءة نصوص بالعربية، الأمر الذي أوجد "عقدة" الحديث بها لدى الغالبية من الناس حتى طفقوا ينفرون من استخدامها في التخاطب. و هي العقدة التي صدت بالتالي عموم الخلق عن الحديث و التواصل بالفصحى و شجعت على تفضيل اللهجة "الحسانية" عليها، بما لها و ما عليها، في المدرسة حيث يطلب إلى التلميذ أنه "يرنك Au rang" بدل الاصطفاف، و الدارس في المعاهد العلمية أنه ممنوع عليه "الترد Retard " و الموظف في الإدارة بأن "de pointer يؤشر عند الحضور" و الأستاذ في الجامعة مخول صرف النظر عن التواصل بها و التحدث باللهجة حتى أصبح الذي يجيد الكلام بها مدعاة "لسخرية" الآخرين و محل تندرهم و استهزائهم لشذوذه.
· تبرم غير الناطقين بالفُصحى عنها لسوء تقديرها و الزهد في نشرها و العمل بما سواها حتى سدت أمامهم المنافذ إليها.. و إذا ضُرب الإمام حتما يخاف المَؤذن.
فهل يتم قريبا، بعيدا عن رسميات الاحتفالات و شعر المناسبات و خطبها الرنانة، التفكير الملي في واقع الضاد المؤسف و من ثم وضع إستراتيجية علمية عملية مجردة من العاطفة الحادة تغربل هذا الواقع و تفرز منهجية قابلة للتطبيق حتى تسترد اللغة العربية مكانتها التي تليق بها و ألقها و إثراءها بين لغات العالم الحية المؤثرة؟