تقع مدينة نواذيبو في شبه جزيرة تدعى محليا بداخلت نواذيبو، حدودها هي الرأس الأبيض جنوبا، وآطويفات شمالا، وتمتد شبه الجزيرة على طول ما يقرب من ستين كيلومترا.
(نواذيبو) الذي اتخذته المدينة اسما لها، هو في الأصل اسم بئر قديمة تقع غرب حي لعريكَيب حاليا، بالقرب من السكة الحديدية، ويشير معنى الاسم وفقا لباحثين إلى نُواح الذئب كناية عن كثرة الذئاب آنذاك في المنطقة.
يمتد عمر المدينة لأكثر من قرن من الزمان؛ ففي ديسمبر من عام ألف وتسعمائة وخمسه، أوفدت السلطات الاستعمارية الفرنسية الباحث آبيل غريفير على متن سفينة لاغَيان، في بعثة استكشافية إلى المنطقة الممتدة من الرأس الأبيض إلى رأس تيميرِسْت بالقرب من نوامغار، وتضمن تقرير البعثة تأكيدا على غنى شواطئ المنطقة بثروة سمكية هائلة، وأسفرت نتائج البعثة التي انتهت رحلتها في مايو من عام ألف وتسعمائة وسته، عن إنشاء السلطات الاستعمارية لمنارة الرأس الأبيض من أجل إرشاد السفن، وبعض علامات باليساج، من خليج لِيفْرِي حتى كانصادو، بالإضافة إلى بناء رصيف عائم في خليج الراحة.
وفي الخامس عشر من شهر أغسطس من عام ألف وتسعمائة وسبعه، قررت السلطات الاستعمارية الفرنسية تسمية الميناء المنشأ حديثا ببور أتيين، نسبة إلى وزير المستعمرات الفرنسي السابق آنذاك أجين أتيين، واستمرت تسمية المدينة ببور أتيين لغاية عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين؛ حيث أعيد لها اسمها الأصلي: نواذيبو.
وفي عام ألف وتسعمائة وثمانيه تم إنشاء قاعدة عسكرية لجنود المستعمر الفرنسي حملت اسم فور لَريميير، وجاء إنشاء هذه القاعدة كتطبيق للمخطط العمراني الأول الذي تم وضعه للمدينة عام ألف وتسعمائة وسته، وتبعد القاعدة العسكرية المذكورة مسافة كيلومتر ونصف عن مركز المدينة.
وشمل المخطط العمراني كذلك إنشاء مكاتب إدارية للمستعمر، وسكن للحاكم الفرنسي تمت تسميته محليا بالدار البيظه، وتعاقب على الإقامة فيه عدد من الحكام الفرنسيين، وهو في الوقت الحالي محل إقامة والي المدينة.
وفي نهاية ثلاثينيات القرن الماضي قامت السلطات الاستعمارية بتشييد حصن عسكري في نواذيبو سمي بتور بْلَ، وشمل أنفاقا عسكرية ومخازن للأسلحة، وما تزال بقاياه من أبرز معالم المدينة.
عانت نواذيبو منذ نشأتها من مشاكل الحصول على مياه الشرب؛ حيث كانت المياه تجلب عبر القوارب التجارية من بوردو ومارسيليا الفرنسيتين، وكانت هذه المياه توزع بمعدل خمس ليترات يوميا للفرد الموريتاني، وخمسة وعشرين لترا للفرنسي، وقد سكّت عملة خاصة، لذلك الغرض، جرى تداولها لبعض الوقت.
بعد ذلك قام المستعمر الفرنسي عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين بإنشاء محطة لتحلية مياه البحر؛ من أجل تزويد المدينة بالمياه الصالحة للشرب. وانتهت هذه المرحلة بعيد اكتشاف بحيرة بولنوار؛ حيث تم إمداد نواذيبو بالمياه الصالحة للشرب عن طريق الأنابيب.
ونتيجة لموقعها الجغرافي المميز، وغنى شواطئها بالثروة السمكية، أظهر المخطط العمراني الأول للمدينة بين مساحات أخرى، قطعا أرضية مخصصة لتجفيف الأسماك، ومصانعَ لمعالجة المنتجات البحرية، وذلك في المنطقة المتاخمة لخليج الراحة.
وقد شيدت الشركة الاستعمارية للصيد والتجارة والتي تمتلك سفينتين للصيد البحري، مبان صناعية، ومساكنَ، بالإضافة إلى أماكن تجفيف ومحلات تجارية، وقد كان موقع مصائد الأسماك المنصوصُ عليه في المخطط العمراني الأول للمدينة غير ملائم؛ مما أدى إلى صعوبات تفريغ الأسماك التي يتم اصطيادها؛ وهو ما اضطر الشركة الاستعمارية للصيد والتجارة إلى وقف أنشطتها.
وشهدت أنشطة الصيد البحري في نواذيبو توقفا خلال الحرب العالمية الأولى، من عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، إلى عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر.
وفي سنة ألف وتسعمائة وتسعة عشر قامت مجموعة من رجال الأعمال الفرنسيين بإنشاء الشركة الصناعية للصيد الكبير سي جي بي، برأس مال قدره ثمانية ملايين فرنك، وبدأت الشركة أنشطتها في عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين من خلال التوقيع على اتفاق مع الحكومة الاستعمارية الفرنسية، يقضي باستغلال مرافق الرسو والتجارة والأنشطة وتوزيع المياه التي كانت تجلبها من بوردو ومارسيليا.
وفي أوج ازدهارها كانت هذه الشركة تشغل ما يقرب من مائتي عامل، وتشتري بعض منتوج إيمراكَن من سمك أزول، وتصدّر جراد البحر إلى فرنسا.
أما الأسماك المملّحة والمجففة فكانت تصدر إلى دول إفريقية من بينها الكوزنغو برازيفيل والغابون.
ومع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي ظهرت عدة شركات للصيد برؤوس أموال مختلطة، وتزايد عددها بمرور السنوات.
وفي حقبة الثمانينيات ظهرت إلى الوجود شركات متقاسمة الملكية بين الدولة الموريتانية ودول أخرى، كشركة سالي مورين بين موريتانيا وليبيا، وشركة آلماب، بين موريتانيا والجزائر، وشركة سيمار، بين موريتانيا ورومانيا، وشركة مافكو، الموريتانية اليابانية، بالإضافة إلى شركة واحدة وطنية هي سوفريما.
وإلى جانب أنشطة الصيد والتجارة مثلت نواذيبو ميناء لتصدير خامات الحديد؛ حيث أنشأت السلطات الاستعمارية عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين شركة ميفرما التي تم تأميمها عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، ليصبح اسمها اسنيم.
وتأسست ميفرما بعد الكثير من الدراسات، وبرأس مال مشترك بين فرنسا وإنجلترا وكندا، إلى جانب مساهمين صغار، وتم تدشين أول كيلومتر من السكة الحديدية في الخامس من مارس، عام ألف وتسعمائة و واحد وستين، وفي الثاني عشر من إبريل عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين انطلقت صافرة أول قطار محمل بخامات الحديد، وفي السابع والعشرين من إبريل عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، تمت أول عملية تصدير لخامات الحديد من نواذيبو.
وقد كان لإنشاء شركة ميفرما أثر كبير على نمو وتطور المدينة.
وعلى شاكلة المدن الحديثة تطورت أنشطة سكان نواذيبو وممارساتُهم، وصاروا يواكبون العالم الخارجي، عبر ما تجلبه لهم الطرق الجوية والبحرية من ثقافة الآخر، و واكبت مدينة نواذيبو الساحلية الأحداثَ السياسية والثقافية والرياضية منذ وقت مبكّر، حتى قبل الاستقلال، وكان النشاط على أوجَه في كل المراحل السياسية الحاسمة، منذ عام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين، كما ضجت المدينة العمالية بحركة نقابية مسؤولة، وشاركت في الاستحقاقات التي شهدتها تلك الفترة التاريخية من تأسيس موريتانيا.
وعرفت المدينة ميلاد أندية رياضية رائدة، حيث كانت من أوائل المدن الموريتانية التي شهدت تأسيس أندية رياضية في حقبة الستينيات والسبعينيات، أشهرها نادي سبورتين كلاب، وإيمراكَن، ونجم الساحل، كما ازدهرت لعبة التنس والسباحة، وتشكلت طبقة من الرياضيين المشهورين من أبناء نواذيبو.
إلى جانب ذلك شهدت نواذيبو منذ بواكيرها إرهاصات تأسيس مسرح ناضج، وعرضت مسرحيات من روائع المسرح الفرنسي تفاعل معها جمهور المدينة.
كما عرفت نواذيبو تشييد عدة قاعات للعرض السينمائي، من أشهرها سينما ماستون، وسينما ليفّار، وكانتا تحتفيان بأحدث الأفلام آنذاك في السينما الفرنسية والعالمية.
نواذيبو…بدت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مدينة ساحرة على ضفاف الأطلسي، زاخرة بالحياة السياسية والثقافية والرياضية، بطرق معبّدة ونظام عمّالي فرضته الجغرافيا التي وضعت نواذيبو في موقع منفتح على كل الثقافات؛ حيث غنم أهل المدينة اللغة الفرنسية من المستعمر، واللغة العربية من جذور ثقافتهم الضاربة في القدم، كما اقتبسوا من الثقافة الإسبانية، وكانت نواذيبو وجهة جاذبة للإسبان الذين استثمروا فيها في مجالات التجارة والسياحة والصيد البحري.
وعلى الرغم من صغر مساحتها عند النشأة، لم يتجاوز عمر الدولة الموريتانية ما يربو على عقد من الزمن، حتى أصبحت مدينة نواذيبو محط أنظار كوجهة جاذبة، متعددة الثقافات، تضج بالحيوية والانفتاح، وتتطلع لأن تكون زهرة المدائن على شاطئ المحيط الأطلسي.