يقيس البعض من ذوي النظرة العجلى بادي الرأي ازدهار الأمم وتقدم الشعوب بمستوى الرقي المادي فحسب، ويتجاهل المعطى الثقافي أو يعتبره ترفا لايقدم ولا يؤخر، وانشغالا بغير الأهم ،ولهذه النظرة في الواقع ما يوهم تبرريها، ويعزز مضمونها ،غير أن التأمل النافذ إلى الحقيقة المتجاوز لشكليات الأمور والدارس لتاريخ الحضارات وسير الأمم يدرك مدى تهافت هذه النظرة واضمحلالها أمام الواقع الحقيقي. فأية أمة لا تتخذ من الثقافة مطية لسيرها نحو الاستقرار والنمو، ونبراسا وهاجا تجاه التقدم الحضاري، إنما تضرب في حديد بارد، وتأتي البيوت من غير أبوابها، وتعل قبل النهل كما يقال.
وتلك سنة من لايصدم أمام عاديات الزمن وأما أي وافد جديد مهما كان ضره أو خطره فبالثقافة تتعز المفاهيم الإنسانية الكبرى، وتقوى وتشتد الأواصر بين الأفراد والمجموعات في سياق الاحترام والتفاهم، وتسود القيم النبيلة التي تحافظ على كينونة الأمم وهويتها الحضارية الخاصة.
و تنمو المدارك الساسية وتتوسع الخبرات الضرورية وتزهو الابتكارات والاختراعات بحيث تستطيع الأمة أن تكون منتجة لا منتظرة لما يجود به الغير و بها يستطيع الفرد أن يكون فاعلا في المجتمع وأن يساهم في بناء نهضة أمته وأن يكون فاعلا ومؤثرا لا شخصا يعيش على الهامش يصحو ويومه مطابق لأمسه دون أن يفكر في تغيير غده. وبالثقافة وحدها يتعلم الإنسان كيف يستطيع مواجهة الأزمات والتريث للبحث الجاد والنافع عن الحلول المناسبة .. وفي ظل انحسارها أو تهميشها تسود الغوغائية التي لا تفضي إلا إلى الفوضى والتشرذم والاضمحلال.. وكيف لغير المثقف أن يفيد أو يستفيد؟
فالمثقف هو وحده القادر أن يخدم وطنه وأن ينمي مداركه باستمرار وأن يساهم في بناء الآخر وتعزيز قدراته .وبهذا يتعزز المجتمع ويصبح مجتمعا حيا يعرف ما من شأنه أن يخدم الجميع ويحصن الأفراد ضد الأفكار والمقولات التي لاتناسبه والتي قد تجر عليه الوبال والخبال..ولكل أمة أبعادها الخاصة بها ولا تستطيع بدون الثقافة أن تتفاعل مع الأبعاد الثقافية الأخرى بشكل سليم دون أن تهملها مطلقا فتعيش منغلقة أو تتشربها كاملة فتختفي خصوصيتها. ولا تستطيع أمة من الأمم أن تقنع أفرادها بالصالح العام والسعي في الخير والابتعاد عن الشر إلا إذا كانوا على مستوى من الثقافة يخولهم النظر في الأمور ومآلاتها بعيدا عن السطحية واللهث الجارف وراء الأشكال أوالمادة على حساب الأخلاق وحب الوطن والكل يعلم أن الإسلام مجد الثقافة وأسس لها بأول آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى "اقرأ باسم ربك الذي خلق" والقراءة هي المفتاح الأساسي للثقافة وهي عمادها وقد ازدهت الحضارة الإسلامية حينما ولت وجهها شطر العلم والمعرفة وسادت أصقاعا كثيرة، وما تقدمت الأمم الأوروبية إلا استنادا على ذلك التراث العليم الحافل بالمعرفة في مختلف المجالات الفكرية والثقافية