من سورية إلى اليمن إلى شمال أفريقيا أعاد أتباع تنظيم «القاعدة» تقنين أوضاعهم، فبعضهم انشق رسميًا عن التنظيم، الأمر الذي مدد شبكة المقاتلين الذين كانوا في مرحلة ما ينهجون نفس أسلوب «القاعدة».
ويقول أليكس ثورستون، أستاذ مساعد في الدراسات الأفريقية بكلية الشؤون الخارجية بجامعة جورجتاون، إن هذا التكوين المعقد جعل الفصل بين من ينتمي إلى «القاعدة» ومن لا ينتمي لها أكثر صعوبة عن ذي قبل.
ويضيف ثورستون، الذي يدرس الفكر والنشاط الإسلامي في شمال وغرب أفريقيا، أن بعض الجماعات المتشددة لها أولويات تختلف مع تلك الخاصة بتنظيم «القاعدة» وأحيانًا تتناقض معها. فهذه الجماعات متدخلة مع مجتمعاتها بطرق لم يصل لها المتشددون خارج الحدود، لأنهم يهتمون بمجتمعاتهم، فبعض الجماعات المحلية تتجنب الجهادية المتشددة لصالح نهج أكثر واقعية.
ويقول ثورستون، في مقال رأي أمس الأحد، نشر على مدونة «لوفير» التابعة لمعهد «لوفير» الأميركي، إنه من وجهة نظر واشنطن ولندن وباريس فمن السهل تصنيف تلك الجماعات كلها باعتبارهم «إرهابيين خطرين»، مضيفًا أنه إذا تم النظر إلى كل جماعة على علاقة بتنظيم «القاعدة» باعتبارها جزءًا من التنظيم فسيستبعد صناع السياسات من التسوية السياسية جماعات موجودة على أرض الواقع ولها دور مهم، وبالتالي سيفقدون فرصًا لحل الصراعات القائمة.
وتابع الكاتب أنه ليس هناك توضيح لهذه التعقيدات أكثر من وضع «سرايا الدفاع عن بنغازي» وهي جماعة مسلحة في شرق ليبيا، وتحارب الجيش الوطني الليبي، مضيفًا أنه على الرغم من أن «سرايا بنغازي» وحلفاءها يفقدون الأراضي في بنغازي، فهم يتحدون الجيش الليبي في أي مكان آخر. وفي مارس سيطرت «سرايا بنغازي» موقتًا على حقول نفط، قبل أن يستعيدها الجيش الوطني الليبي.
ويضيف أنه من وجهة نظر «سرايا بنغازي» فإنهم يحاربون لاستعادة وطنهم مرة أخرى، لكن بالنسبة لمحللين أمنيين غربيين ولأعدائهم الليبيين فإن «سرايا بنغازي» هي مجموعة متشددين «متحالفين» مع تنظيم القاعدة.
ويقول إن «الأمر المهم في ليبيا وساحات الصراع الأخرى عدم منح (القاعدة) موطئ قدم في البلاد، وفي الوقت نفسه كذلك من الضروري التصدي للسياسات التي تحول الصراعات السياسية المعقدة -التي لا يمكن اختزالها- إلى روايات أنيقة عن الأخيار في مواجهة الإرهابيين».
حرب أهلية متشعبة
لفهم الدور السياسي لـ«سرايا بنغازي» يقول الكاتب إنه من المهم مراجعة اللاعبين الرئيسيين في الحرب الأهلية في ليبيا.
وفي الجولة الأولى من الحرب، في العام 2011، أطيح بالدكتاتور معمر القذافي من خلال ائتلاف ضعيف من الثوار والمعارضين والشباب والمنشقين عن النظام. وبدأت الجولة الثانية من الحرب الأهلية في العام 2014 عندما انهارت التسوية السياسية التي جرى التوصل لها عقب الثورة، في أعقاب انتخابات تنازعت عليها كل الأطراف.
وفي شمال غرب ليبيا ظهرت جماعة «فجر ليبيا» المكونة من تحالف تقوده قوات في مدينة مصراتة -التي تعد مركزًا اقتصاديًا رئيسيًا- وهيمن «الإسلاميون» والسلفيون المتشددون على العديد من ميليشياتها. بينما يتواجد في الشمال الشرقي مجلس النواب المعترف به دوليًا والجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، مستهدفًا كلاً من «الإسلاميين والمتشددين، دون تمييز حقيقي بين الاثنين».
وإلى جانب الجيش الليبي وما يسمى بـ«فجر ليبيا»، قال الكاتب إن المجتمع الدولي أضاف حكومة الوفاق كلاعب ثالث كبير في ليبيا العام 2015، وهي المعترف بها دوليًا والمدعومة من الأمم المتحدة والقوى الغربية والدول العربية.
وتابع: «إن الهدف من تشكيل تلك الحكومة هو التوفيق بين فجر ليبيا والجيش الوطني الليبي من خلال تمثيل العديد من الدوائر الجغرافية والسياسية الليبية. لكن تلك الحكومة حازت فقط تأييد فصائل ليبية بعينها في مصراتة وطرابلس ومناطق أخرى في غرب ليبيا، بينما في الشرق أجَّل مجلس النواب مرارًا التصويت على قرار للاعتراف بها».
ويقول الكاتب إنه «في أثناء ذلك أثارت الجماعات المتشددة في ليبيا فزع الغرب. ففي أعقاب ثورة 2011، أطلق سراح المتشددون القدامى ومنح الصغار منهم سلطات، كما ظهر المتشددون في المدن الشمالية في الوقت الذي رأى فيه آخرون خارج ليبيا فرصة لاقتناصها».
ويضيف: «في 2014 دخل ليبيا ما عرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفي الفترة ما بين مايو إلى ديسمبر 2016 شنت ميليشيات مصراتة المتحالفة بشكل ضعيف مع الحكومة المعترف بها دوليًا حملة شرسة على «داعش» في مدينة سرت الساحلية»، مشيرًا إلى أن نجاح حكومة الوفاق «عزز الانقسامات في البلاد: المصراتيون يحاربون في سرت، والمشير حفتر يسيطر على حقول البترول في مسعى لدعم سلطته».
ووصف ثورستون استراتيجية «داعش» في ليبيا القائمة على السيطرة على الأراضي بالحدة، فيما وصف تنظيم «القاعدة» بالدهاء، وقال: «هنا تكمن المشكلة التحليلية: فهل يعد سماح تنظيم القاعدة للمتشددين المحليين بالقيادة دليلاً على استراتيجيته الذكية أم على ضعفه؟ وهل هناك طريقة للتفريق بين المتشددين وعدم الخلط بينهم؟».
6 درجات للتباعد عن «القاعدة»
يقول الكاتب إنه ليس من الصعب أن يكون أحد أعضاء «سرايا بنغازي» على صلة بعنصر في «تنظيم القاعدة»، مضيفًا أن بعض عناصر التنظيم يرتبطون بشكل وثيق بـ«القاعدة»، كما يحصل عناصر «سرايا بنغازي» على الدعم من «مجلس شورى المجاهدين» في المدن الشرقية، فأحد قادة «سرايا بنغازي» سعدي النوفلي هو قائد مجلس «شورى ثوار إجدابيا».
فيما يضم «مجلس شورى المجاهدين» ميليشيات على صلات بـ«القاعدة» مثل «أنصار الشريعة»، التي يصنف أحد قادتها، وهو سفيان بن قمو في درنة، كإرهابي عالمي، ويتردد أنه كان يعرف أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق.
ويقول الكاتب الأميركي: «إن مشكلة اتصال عدة عناصر ببعض تكمن في أنه في نهاية المطاف يكون جميع المتواجدين بالساحة السياسة الليبية على بعد خطوتين أو أربع من تنظيم القاعدة»، وذلك وفقًا لنظرية الدرجات الست من التباعد.
ووفق تلك النظرية فإن كل شخص وكل شيء هو على بعد ست خطوات أو أقل من أي شخص آخر في العالم، حسب هذا المفهوم؛ أي أنه يمكن الربط بين شخصين في العالم خلال ستة أشخاص آخرين على الأكثر.
ويتساءل الكاتب: «هل يجب النظر إلى اللاعبين السياسيين كأنهم على صلات لا يمكن تجاهلها بالجهاديين؟»، مضيفًا أن «تبني هذا النهج سيزيد من صعوبة التوصل إلى تسوية سياسية وطنية، وأن القوى الغربية تدرك ذلك جيدًا، وتتخذ قرارات تعسفية بشأن من أين تنشأ صلات القاعدة وأين تنتهي».
ويشير إلى أن «قليلاً من قادة سرايا بنغازي يمكن تصنيفهم كجهاديين، بعيدًا عن المتعاطفين مع القاعدة»، وضرب مثلاً على ذلك بواحد من هؤلاء هو «إسماعيل الصلابي الذي قاد الفترة بين 2011 و2012 مجموعة من ميليشيا تدعى كتيبة راف الله السحاتي، وهي على صلات بجهاديين، ولكنها في الوقت ذاته معروفة من قبل الحكومة الليبية بأنها جزء من قوات الأمن إلى جانب العشرات من الميليشيات الأخرى».
ويضيف أن «كتيبة سرايا بنغازي تضع نفسها تحت سلطة مفتي ليبيا السابق الصادق الغرياني، الذي اختاره المجلس الوطني الانتقالي في 2012، وليس القاعدة»، مشيرًا إلى أن الكتيبة «تتحالف أيضًا مع المهدى البرغثي وزير الدفاع في حكومة الوفاق، الذي اتهمته مجموعة الأزمات الدولية بالوقوف خلف هجوم «سرايا بنغازي» على حقول النفط بهدف إضعاف قائد الجيش الليبي خليفة حفتر».
ويوضح الكاتب فكرته عن أنه ليس كل من كان له صلة بالقاعدة، يعد مواليًا للتنظيم بقوله إن «تطبيق نظرية الدرجات الست على سرايا بنغازي والبرغثي ومدى تباعدها عن تنظيم القاعدة، يوضح أن حكومة الوفاق ليست فقط جزءًا من شبكة القاعدة، ولكن أيضًا الأمم المتحدة والإدارة الأميركية» (!)، مشيرًا إلى أنه «عقب سيطرة سرايا بنغازي على حقول النفط، قاموا بتسليمها إلى جهاز حرس المنشآت النفطية، الأمر الذي أشادت به الحكومة الإيطالية. وأضاف: «لكن القول بأن هذا يعني أن الحكومة الإيطالية تنسق مع القاعدة سيكون أمرًا سخيفًا».
إعادة تقييم دور «القاعدة»
ويقول الكاتب إنه «بالنظر إلى ما سبق فإن ذلك يعني أن القاعدة تدعم الجماعات المحلية التي خرجت من مظلة التنظيم، ففي ليبيا وتونس واليمن من السهل رؤية كيف يدعم أنصار الشريعة أيديولوجية القاعدة، القائمة على السيطرة على الأراضي، وتقديم الخدمات، لكن من الصعب رؤية كيف تدعم سرايا بنغازي أهداف التنظيم لأنهم يطلقون على أنفسهم الثوار وليس المجاهدين، ويلجؤون إلى القرآن لتبرير أفعالهم، ويطلقون على قتلاهم الشهداء، وهذا هو الوضع أيضًا بالنسبة لمجموعة من المتواجدين في السياسة الليبية».
ويضيف أخيرًا أنه «بقدر ما يشارك تنظيم القاعدة في السياسة العامة، فإن نقاءه الخاص به يتعرض للخطر، وحتى لو كان المرء يعتقد أن تنظيم القاعدة يسيطر على الكتائب، فإن سياسات الكتائب -ولا سيما تعاملها مع الجيش الوطني- تشير إلى أن أفكارها الجهادية المحدودة ستضعف أكثر، وفي نهاية المطاف قد يجد الجهاديون المرنون أنفسهم تحولوا نسبيًا إلى سياسيين، وهو مسار اتبعه جهاديون ليبيون آخرون».
وكالات :