ربّما لا نُضيف جديدًا عندما نُكرّر المَقولة الدّارجة التي تُؤكّد أن مُعظم المَسؤولين الغَربيين، والأمريكيين خُصوصًا، يُصبحون أكثر حِكمةً وتَعقّلاً، عندما يُغادرون مَراكزهم الرسميّة في دُولهم، ولكن هذا لا يَعني التّقليل من أهميّة مَواقفهم وتَحليلاتهم السياسيّة في أي مُحاولة من قِبلنا، أو غَيرنا، لفَهم آليات اتخاذ القرار ومَعاييرها، وبَعض المَعلومات التي يُمكن الاطلاع عليها من ثنايا تصريحاتهم تُجاه العَديد من قضايانا.
نسوق هذه المُقدّمة، التي تبدو طويلةً في نَظر البعض، بمُناسبة المقال الذي كَتبه جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي السابق، في صحيفة “واشنطن بوست”، ونَشرته اليوم السبت الذي شنّ فيه هُجومًا شَرسًا على الرئيس دونالد ترامب، وقال فيه أنه لا يَجب أن يكون الاتفاق النووي “لعبة” في يديه حِفاظًا على الأمن القَومي الأمريكي، وكَشف “أن سَعيه لهذا الاتفاق، الذي استغرق التوصّل إليه مع إيران آلاف السّاعات من المُفاوضات، جاء بعد وصول مَعلوماتٍ مُؤكّدة تُفيد بأن لديها، أي إيران، مَخزونًا من اليورانيوم يَكفي لصناعة عشر أو اثنتي عشر قُنبلة نوويّة”.
السيد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، أكّد مخاوف الوزير السابق كيري في تصريحاتٍ أدلى بها إلى صحيفة “الغارديان” البريطانيّة ونَشرتها اليوم، هدّد فيها بأنّ بلاده سَوف تستأنف تخصيب اليورانيوم وبمُعدّلات عالية (أكثر من عشرين في المئة) إذا انسحبت أمريكا من الاتفاق النووي، وطالب الدّول الأوروبيّة (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) بتجاهل هذا الانسحاب واستمرار التمسّك بالاتفاق.
مقال الوزير كيري في “الواشنطن بوست”، وتزامنه مع تهديدات السيد ظريف، يُؤكّد أن الأسبوعين المُقبلين سيَشهدان حملةً دبلوماسيّةً مُزدوجةً يَخوضها المُعسكران المُؤيّد والمُعارض، للاتفاق في مُحاولةٍ للتأثير على نتائج المُراجعة الدوريّة للكونغرس الأمريكي حوله مُنتصف شهر أكتوبر المُقبل، حيث من المُتوقّع أن تُقدّم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة شهادتها التي تَجزم بأنّ إيران لم تَلتزم بالاتفاق النووي، واخترقت بنوده، ولهذا يَجب أن تَنسحب إدارة ترامب منه.
***
رد الفِعل الأوروبي على أيّ انسحابٍ أمريكي من الاتفاق سيكون على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة لعدّة أسباب نُوجزها كما يلي:
أولاً: مُعارضة الدّول الأوروبيّة الثّلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، للانسحاب من الاتفاق وتمسّكها به، يَعني حُدوث طلاقٍ سياسيٍّ بينها وبين الولايات المتحدة، وإدارة ترامب تحديدًا، وحُدوث شَرخٍ كبيرٍ في المُعسكر الغَربي، من نتائجه خسارة أمريكا لمُعظم نُفوذها في أوروبا، وزيادة عُزلتها عالميًّا، لأن مُعظم دُول العالم تُفضّل استمرار الاتفاق وتجنيب المُواجهة.
ثانيًا: دَعم أوروبا للانسحاب الأمريكي يعني انهيار الاتفاق والوقوف خَلف خيارات الرئيس ترامب السياسيّة، وربّما العَسكريّة ضد إيران، الأمر الذي سَيؤدّي إلى التّصعيد وعَودة الحِصار، وربّما الانزلاق إلى مُواجهةٍ عَسكريّة.
ثالثًا: اصطفاف روسيا والصّين خلف إيران، وزيادة تعاونهما العَسكري والتّقني معها، لأن الانسحاب من الاتفاق يَجعلها في حِل من أيّ حَرجٍ من جرّاء استمرار هذا التّعاون، ولاحظنا أن روسيا لم تُسلّم صواريخ “إس 300″ لطهران إلا بعد توقيع الاتفاق.
رابعًا: إلغاء الاتفاق، أو انسحاب أمريكا منه، سيُعزّز الجناح المُتشدّد في إيران بزعامة المُرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وإضعاف المُعتدلين برئاسة الرئيس حسن روحاني، وإضعاف مِصداقيّة الولايات المتحدة كدولةٍ عُظمى تَحترم الاتفاقات التي تُوقّع عليها، ممّا يَزيد التّعاطف الدّولي مع إيران، وعَزل أمريكا، أو بالأحرى إدارتها الحاليّة على الأقل.
انعكاسات أيّ قرارٍ أمريكي بالانسحاب من الاتفاق النّووي مع إيران، أو استمرار الالتزام به ستَكون واضحةً، بل على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة على مَنطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج العربي تحديدًا وهُناك احتمالان في هذهِ الحالة:
الأول: أن تتراجع إدارة ترامب عن الانسحاب من الاتفاق، وتُغطّي انسحابها بالمُطالبة بتَعديله، وإضافة بندٍ جديدٍ يُطالب بوَقف إيران لتَجاربها الصاروخيّة الباليستيّة، وهذهِ الصّيغة ربّما تَجد بَعض التّجاوب أوروبيًّا، لأنها تَعني تأجيل الأزمة، وكَسب الوَقت، الأمر الذي قد يَدفع الدّول الخليجيّة بالعَودة إلى فَتح قَنوات الحِوار مع طهران التي أجهضتها إدارة ترامب فجأة، وتمثّلت في غَزلٍ دبلوماسيٍّ سُعوديٍّ إيراني تَبلور في تبادل إرسال الوفود الدبلوماسيّة لتفقّد السّفارات في عاصمتي البلدين، والانفتاح على القيادات الشيعيّة العراقيّة، وطَلب وساطتها لـ”ترطيب” العلاقات السعوديّة الإيرانيّة.
الثاني: أن تَنسحب أمريكا من الاتفاق كُليًّا، وتُعلن الحَرب السياسيّة، وتَبدأ التّحريض ضد إيران، وتُعيد الحِصار الاقتصادي الذي كان مَفروضًا عليها قبل الاتفاق كاملاً، وهذا يَعني إعلان حرب، وبِدء تَشكيل تحالفٍ سياسيٍّ وعَسكريٍّ ضد إيران، تكون دول الخليج، والسعوديّة والإمارات والبحرين، رأس حِربته الإقليميّة.
***
لا نَستعبد أيًّا من الاحتمالين، فالمَعركة في بداياتها ولكنّنا نُرجّح الثّاني بحُكم مَعرفتنا بحماقات الرئيس ترامب ومَزاجه الانفعالي الذي يَلقى تأييدًا وتفهّمًا، وربّما إعجابًا في منطقة الخليج بسبب العَداء المُتأصّل لإيران.
الإيرانيون سيَردّون بالتخلّي عن الاتفاق واعتباره لاغيًا في حال انجرار الأوروبيين خَلف القرار الأمريكي بالانسحاب، والبِدء في زيادة التخصيب ومُعدّلاته، فَهم لا زالوا يَملكون أجهزة الطّرد المَركزي للتّخصيب، والمُفاعلات النّوويّة في نطنز واراك، والأخير وَسط جبل قُرب قم، مِثلما يَملكون مِئات العُلماء والخُبرات.
أمريكا ستَجد نَفسها تُحارب نوويًّا على جَبهتين: كوريا الشماليّة وإيران في الوَقت نفسه، الأمر الذي سَيُؤدّي إلى زيادة التّقارب وتبادل الخُبرات والتّنسيق في شَتّى المجالات، وبدعمٍ روسيٍّ صينيٍّ أيضًا.
الاستفتاء الكُردي هو أحد حَلقات هذهِ الحَرب الأمريكيّة الزّاحفة، بهَدف استنزاف إيران، وإغراقها وحَليفها العِراقي، وربّما السّوري، في حَربٍ إقليميّة، وهذا هو التّفسير الأوضح لالتقاء إسرائيل ودول خليجيّة على تأييد هذا الاستفتاء ودَعمه، سواء علانيّةً، مِثلما فعل الإسرائيليون، أو في السّر، مِثلما فَعل، ويَفعل بعض الحُلفاء الخَليجيين.
لا نَعتقد أن أمريكا ترامب ستَكسب هذهِ الحَرب، لأن الظّروف الدوليّة التي سَمحت بغَزو العِراق واحتلاله تغيّرت، أو بالأحرى لم تَعد مَوجودة.. وإيران قُوّةٌ عَسكريّةٌ وصاروخيّةٌ إقليميّةٌ عُظمى قادرةٌ على الرّد على أيّ عُدوانٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ.. والأيام بيننا.