لم تَنتظر إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتهاءَ عُطلةِ أعيادِ الميلاد المجيدة، وبِدء العام الجديد لفَرض عُقوباتِها السياسيّة والاقتصاديّة على السّلطة الفِلسطينيّة ورئيسها محمود عباس، بل بَدأت في نقلها من حَيّز التهديد إلى حيّز التّطبيق العَملي، حتى قَبل التّصويت في الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة لإدانة القَرار بالاعتراف بالقُدس المُحتلّة عاصِمةً لإسرائيل، ونَقل السفارة الأمريكيّة إليها.
الرئيس ترامب أدركَ مُسبقًا أن الرئيس عباس لن يَقبل القرار الأمريكي، وسَيقف ضِد “الصّفقةِ الكُبرى” للتسوية التي وَضعها صِهره جاريد كوشنر بالتّنسيق مع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكَلّف السّلطات السعوديّة عبر الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، بتَوجيه إنذارٍ أخير إلى الرئيس الفِلسطيني بأن استمراره في مَواقِفه هذهِ المُعارضة للصّفقة الكُبرى قد يُؤدّي إلى “عَزلِه”، ولذلك عَليه التحلّي بالمُرونة، فهذهِ الصّفقة قد تكون سيّئةً للوهلةِ الأولى ولا تُلبّي المَطالب الفِلسطينيّة جميعًا، ولكن يُمكن أن تتحسّن بعد تَطبيقها عمليًّا، فالولايات المتحدة، وحسب ولي العهد السعودي، هي الخَيار الوحيد الذي يُمكن الاعتمادُ عليه في أيِّ عمليّة سلام، لأنّها قادرةٌ على مُمارسة الضّغوط على القيادةِ الإسرائيليّة.
***
العُقوبات الأمريكيّة ضِد السلطة الفِلسطينيّة والرئيس عباس شخصيًّا، يُمكن أن تتجسّد في عِدّة توجّهات رئيسيّة:
الأول: تَجميد كل الاتصالات الرسميّة والأمنيّة مع السّلطة في رام الله، ووَقف جميع المُساعدات الماليّة لها، بِما في ذلك مليار دولار سنويًّا إلى وكالة الإغاثة الأُمميّة للاجئين (الأونروا)، وإغلاق مكتب مُنظّمة التحرير في واشنطن.
الثاني: قَطع جميع الاتصالات السياسيّة والأمنيّة مع السّلطة، وعدم تَوجيه الدّعوات لأيٍّ من مَسؤوليها لزيارة واشنطن سَواء على الصّعيد الرسميّ أو الشخصيّ.
الثالث: مُطالبة الدّول العربيّة المانحة، مثل السعوديّة والإمارات وقطر، وَقف جميع مُساعداتِها الماليّة للسلطة، وقال موقع “ديبكا” الإسرائيلي أن الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، لم يتجاوب مع طلب الرئيس عباس بإرسال دُفعةٍ من المُساعدات بصِفةٍ عاجلةٍ إلى السّلطة، وستَفعل السعوديّة والإمارات الشيء نَفسه.
الرابع: والأخطر، البَحث في قِيادةٍ فِلسطينيّةٍ بَديلة، وكان الرئيس ترامب واضِحًا في هذا الإطار، عندما غَرّد على حِسابه على “التويتر” قائِلاً “حان الوَقت لقِيادةٍ جديدةٍ للفِلسطينيين”.
الاجتماعات المُغلقة التي تَزعّمها الرئيس عباس للدّائرة الضيّقة لقِيادة حركة فتح لبَحث خُطط مُواجهة هذهِ العُقوبات الأمريكيّة تواصلت طِوال الأيّام القليلةِ الماضية، مِثلما كَشفَ مَصدر فِلسطيني مَوثوق لـ”رأي اليوم”، وقال أن هذهِ الاجتماعات التي عَكست حالةً من التوتّر كَشفت عن ثلاثةِ مُعسكرات:
الأول: يُطالب بالمُواجهة، واللّجوء إلى الشّعب الفِلسطيني، وتَثوير الأرض المُحتلّة، ودعم الانتفاضة وتَوسيع نِطاقها، وتَشكيل جبهة مُقاومة فِلسطينيّة مُوحّدة، واتخاذ قراراتٍ استراتيجيّةٍ بوَقف التّنسيق الأمنيّ، والانسحاب من اتفاقات أوسلو والعَمليّة السياسيّة كُليًّا، وإلغاء الاعتراف بإسرائيل بالتّالي.
الثاني: مِحور يُطالب بالعقلانيّة، وتَجنّب الصّدام، والتّراجع عن الخَطوات التصعيديّة، بما في ذلك رفض استقبال بنس، نائب الرئيس، والانضمام إلى المِحور السعودي الإماراتي المصري، وتَكليفه بإعادة المِياه إلى مَجاريها مع واشنطن.
الثالث: يُريد اتّباع الخَيار الثالث أي التّصعيد من أجل تَحسين الوَضع التفاوضي الفِلسطيني مع واشنطن، على أن تكون المُواجهة تكتيكيّةً وليست مُوسّعة، أي لا لسِياسة كَسر العَظم.
الرئيس عباس قَلِقٌ من التّهديد الأمريكيّ الإسرائيليّ بإيجاد قيادةٍ فِلسطينيّةٍ بديلة، وعَبّر عن قلقه هذا أثناء مُباحثاتِه مع العاهل السعودي، حتى أنّه طَلب منه التدخّل لدى دولة الإمارات العربيّة المتحدة، بأنّ لا تلعب أيَّ دَورٍ في دَعم هذهِ القِيادة البَديلة من خِلال تَبنّيها للنائب محمد دحلان الذي يَحظى بِرعايتِها.
المَعلومات المُتوفّرة لدى السّلطة حتى الآن حول هذهِ القِيادة البديلة تبدو مُشوّشة، بسبب انقطاع الاتصالات المُباشرة بينها وبين الجِهات الأمريكيّة والإسرائيليّة، وتعتمد على “التكهّنات” أكثر منها وقائع، وتُرجّح قِيادة السلطة أن يَنصب البَحث الأمريكي الإسرائيلي عن أحد رِجال الأمن الأقوياء لتولّي القِيادة البَديلة، وأن يكون من حركة “فتح”، وأن تَضُم هذهِ القِيادة إلى جانبه مجموعةٍ من رِجال الأعمال الأكاديميين وقادة الرأي في المُجتمع الفِلسطيني في الضفّة والقِطاع مَعًا.
وتُفيد المعلومات أيضًا أن حِصارًا ماليًّا واقتصاديًّا شَرِسًا سيتم فَرضُه على السلطة ورئيسِها وسُكّان الضفّة الغربيّة تحديدًا، وتَحميل الرئيس عباس المَسؤوليّة حسب السيناريوهات المُتداولة، تمامًا على غِرار ما حَدث في قِطاع غزّة طِوال السّنوات العَشر الماضية، الأمر الذي قد يُجبر الرئيس عباس على التّراجع ورَفع راية الاستسلام، أو إن يَتهيأ المَيدان للقِيادة الجديدة التي قَد يتم دعمها بالمِليارات من الدّولارات من أمريكا أو من دُولٍ خليجيّة.
جميع هذهِ السّيناريوهات تبدو مُرعِبةً على الوَرق، لكن ما لم يُدركه واضعوها، أن احتمالات نَجاحِها لَيست مَضمونة، ويُمكن أن تُعطي نتائجَ عكسيّةً، تمامًا مِثلما حَدث لسيناريوهات مُماثلة في اليَمن والعِراق وسورية.
حركة “فتح” ما زالت قَويّةً في الأراضي المُحتلّة، والجَناح الشّبابي فيها في حالةِ غليان، ويُمكن تَجنيده بسُهولة تحت قِيادة مُتشدّدة تَجنح للتّصعيد، ونَحن لا نَتحدّث هُنا عن “فُقاعة رام الله” وأولاد وبنات بَعض المَسؤولين الكِبار في الحركة الغارقين في الفَساد ورَغد العَيش، نحن نَتحدّث عن القواعِد الشبابيّة في المُدن والقُرى والمُخيّمات، أو مِلح الأرض، مِثلما يُطلق عليهم الذين يَنضحون وطنيّةً وشهامة وكرامة، وعانوا كَثيرًا من الإذلال الإسرائيلي، وفساد السّلطةِ مَعًا.
***
الضّغوط مُتعاظمة على رئيس السّلطة، وتستخدم أمريكا وحُلفاءها سِياسة العَصا والجزرة، ورأس الحِربة في هذهِ الضّغوط القِيادة السعوديّة التي تَلعب دور الوسيط، فالسعوديّة لا تُريد انفجارًا أكبر للأوضاع في الضفّة والقِطاع على أرضيّة قرار نَقل السّفارة إلى القُدس المحتلة، مِثلما تُريد أن تَكسب الوَرقة الفِلسطينيّة كغِطاءٍ “وطنيٍّ” في صِراعها ضِد إيران، وتَتطلّع إلى تَوظيف المُخيّمات الفِلسطينيّة في لبنان كقُوّةٍ يُعتمد عليها في مُواجهة “حزب الله”.
نحن نَقف في خَندق الجَناح التّصعيدي، لأن جميع الخيارات الأُخرى التي اتّبعها الرئيس عباس، مُهندس اتفاق أوسلو لم تَقُد إلا إلى الفَشل، وضَياع الأرض وسُقوط كُل أوهام الدّولة المُستقلّة، وربّما القُدس المُحتلّة أيضًا، ولم يَبقَ للشّعب الفِلسطيني ما يَخسره بعد 24 عامًا من المُفاوضات المُهينة وليس العَبثيّة فقط، حيث تَعرّض الشعب الفِلسطيني لأكبر “خَديعة” في تاريخه، ونَسف تُراثِه المُقاوم المُشرّف بالتّالي، وتَسجيل سابِقةٍ مُرعِبَةٍ في تاريخ ثَورات التّحرير وهي التّعاون أمنيًّا مع سُلطة لاحتلال، وحِماية مَستوطنيه، وتَحويل الشّعب الفِلسطيني من شَعبٍ مُناضل إلى شَعبٍ مُتسوّل.
هل يَفعلها الرئيس عباس ويُصحّح هذا الخَطأ، أو بالأحرى الخَطيئة، ويُعيد الهَويّة الوطنيّة، النضاليّة والجهاديّة في أبهى صُورِها للشّعب الفِلسطيني، ويُحقّق مُصالحةً كُبرى ومُوسّعة على هذهِ الأرضيّة، أرضيّة المُقاومة للاحتلال؟
لا نَملُك الإجابة.. ونَعترف بأنّ لدينا الكَثير من الشّكوك والتحفّظات.. ونَأمل أن لا تَكون في مَحلّها.. والأيّام المُقبلة ستَحمل الإجابة.