إنّ نظام الألوان لدى البيضان معقّد، وقُدُماً فاشِل في العولمة. ومثلُه مثل نظام الوزن بالرطل أو القياس بالقدم والميل، وغيرها من الهرطقات الإنجليزيّة، قد أصبحَ إشكالياً عند التقاء الحضارات. إلاّ أنّ نظام الألوان البيضاني/الحرطاني، بعكس هذه الأنظمة القياسيّة، لا يُدعمُ في المدارس، ما يُنتِج حالةً من الانفصام، وما يجعلُه عامياً ودونياً. وبالنسبة لطفولتي فإنّ تضارب مفاهيم البيضان في الألوان كان مُحيِّراً ومُجهِّلاً.
عموماً لا يُكثِرُ البيضان من الألوان، لذا فهم يُطلِقون اللون الواحِد على عدّة مراتِب وأطيافٍ من الألوان. وثمّة ألوان قد تحوّلت إلى صفات في الشخصية وانتُزِعت من الطبيعة، كاللون الأزرق. وما يقصُدُه البيضان بالأخضر هو ما تقصدُه الفُصحى بالأزرق. وثمّة أصول عربيّة لهذا، ذلك أنّه واضِح لصاحب اللسان أنّ "الزرقة خضرة في سواد العين". أما الأزرق في لغة البيضان فهو يتراوح من الساذج إلى الأبله. وثمّة أصولٌ عربية أيضاً لهذا، فالأزرق عند العرب هو نوعٌ معيّن من الدمامة يُعطي سحنة بلهاء لصاحبِه. إنّه goofy. وقد نُقِل عن السّري بن عبد الرّحمن الأنصاري (أبوه صحبي)، خصم الأحوص (ت 105هـ)، أنّه كان "قصيراً دميماً أزرق". والأزرق في الفُصحي عطشان حائر. ومنه ما جاء في القرآن: "ونحشرُ المجرمين يومئذ زرقاً".
وإذا كان الأخضر ينزوي لدي البيضان إلى الأزرق فإنّهم أيضاً يُحرِّفون الأخضَر إلى الأسود. فرجل أخضر يعني داكن البشرة. ومرّةً أخرى فإنّ هذا تصوّر عربي قُحّ. فـ"العرب تُسمِّي الأسود الأخضر"، كما أورد الأصفهاني في ترجمة صخر بن الجعد. وكان أولاد مالك بن طريف يُسمّون بالخُضُر لسوادِهم. وفي واقِع الأمر فإن صفة الأخضر هي الأقلّ عنصرية في تلوينات البيضان فهي تجمع البيضان والحراطين عموماً. فهي شبيهة بمفهوم الأسمر لدى المصريين. وإنّها قريبة من مفهوم السودان الذي أوردَه الجاحِظ، فالجاحِظ عدّ العرب في السودان، أما البيضان لديه فهم من يُسمِّيهم البيضان المعاصِرون بالنصارى. إنّهم ذوو الألوان القوقازية: الرجل البيض. وبهذا المعنى فإنّ الجاحظ أكثر معاصرة لنا في الألوان من البيضان أنفسهم.
ليس هذا صعباً. وليس للبيضان لونٌ إلاّ وهو صفة. فالبيضان ينفصِمون ما بين الطبيعة والثقافة. والبيضان أفلاطونيون من ناحيّة أنّهم يرون للمُثُل حياةً وتشكُلاُ حياتياً يومياً مغايراً. والأحمر لدى البيضان هو الواضِح. فمن ذلك قولُهم "سارِق أحمر": أي أنّه لِصٌّ واضِح، لا مراء فيه. والأصل في نسبة الإحمرار إلى الاتضاح عند البيضان هو مطابقتُهم للعُري بالاحمرار. والدلالة هنا على اللحم البشري، اللحم الأحمر. فالعاري أحمر. والطفل الصغير هو لحمة حمراء. والأحمر هو المتجرِّد.
إنّ البيضان يُعقِدون هذه الأشياء التي تبدو لغيرِهم بديهية. ورغم أن البيضان، على ما فعلتهم بهم شمس الصحاري عبر آلاف السنين، ما زالوا معدودين في جُملة السُّمُر (brown)، إلاّ أنّهم يُعدِّدون مراتب ألوانِهم من الأبيض والأصفر إلى الأخضر والأكحل (مرّة أخرى أخذ البيضان لوناً ثقافياً وحوّله إلى لون طبيعي). ولا يُحيل الأصفر في الحسّانيّة إلى المرض والشحوب، وإنّما إلى النضارة والخصوبة. أمّا مفهوم الابيض فهو أعقَد من ذيل الضّبّْ. فمن ناحية هم بيض (وهذا ما لا يقبلُه نسّابة العالم، كما أتحنا)؛ وفي نفس الوقت فإنّ البياض هو اللاشيء: إنّه لون الاختفاء. ومن بيّض شيئاً لملمه. ومن بيّضَ شيئاً يعني أنّه أوضَحه كما يعني أنّه أخفاه. ومن صار عيناً بيضاء فقد صار أثراً بعد عين. وليست البيضنة في حقيقة الأمر غير اللعب ما بين الأثر واللاشيء. وهذا في حقيقة الأمر ما يُسمّى باتبيظين.
-----------------------
من ضفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك