فجأة، ودون اي مقدمات، تحتل الرسالة التي اصدرها 50 موظفا ودبلوماسيا في الخارجية الامريكية قبل ايام، وطالبوا فيها حكومة بلادهم بتوجيه ضربات عسكرية الى النظام السوري وجيشه ومقراته، سواء بغارات جوية، او صواريخ بعيدة المدى (كروز)، او بطائرات بدون طيار “درونز″، في اطار توجيه انتقادات قاسية الى السياسة الامريكية في سورية.
وزارة الخارجية الامريكية اعترفت بوجود هذه الرسالة، وقال جون كيربي المتحدث بإسمها انها تحت الدراسة، ولكن اللافت ان بعض الصحف التي نشرت عناوينها الرئيسية، مثل “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز″، لم تذكر اي من اسماء الموقعين (المنشقين) عليها، حتى يعرف المراقب او المحلل، مدى ثقلهم السياسي وحجم تأثيرهم، الامر الذي يجعلنا نشكك في مدى جديتها، وان كنا لا نشكك في الاهداف التي ترمي هذه التسريبات تحقيقها.
للوهلة الاولى يمكن الخروج بإنطباع اولي بأن هذه الرسالة موجهة بالدرجة الاولى ليس لادارة الرئيس اوباما، وانما الى القيادة الروسية، تقول ما بين سطورها ان الكيل الامريكي قد طفح من الدعم الروسي للرئيس بشار الاسد وحكومته والانتصارات التي تحققها المؤسسة العسكرية الروسية في ميادين القتال على حساب امريكا وحلفائها في سورية، وانهيار التفاهمات الامريكية الروسية حول سبل الحل بفعل جمود العملية السياسية التي انبثقت عن مجموعة دعم سورية في فيينا، وشكلت مفاوضات جنيف احد ابرز تطبيقاتها العملية.
***
جون كيري وزير الخارجية الامريكي ابدى ضيقا من جراء الجمود، والهيمنة الروسية شبه الكاملة على المشهد السوري بعد التدخل العسكري، ولمحّ قبل شهر تقريبا، الى ان الولايات المتحدة تملك “الخطة B” وقال انها موضوعة على الطاولة في حال توقفت العملية السياسية.
لا نستبعد ان تكون هذه الرسالة صدرت بإيعاز الوزير كيري نفسه، او من قبل بعض المقربين منه، وليس من قبل عناصر “منشقة” في وزارة الخارجية الامريكية، وهناك سوابق عديدة مماثلة في الاعراف السياسية والدبلوماسية، الامريكية، او غير الامريكية، وهذا لا يعني التقليل من شأنها، او التهديدات الخطيرة التي توجهها ليس الى النظام السوري فحسب، وانما الى حلفائه الروس والايرانيين ايضا.
فان تطالب الرسالة بقصف صاروخي، وغارات جوية فهذا اعلان حرب، وتبن كامل للخيار العسكري، والحديث عن استخدام طائرات بدون طيار في سورية ضد النظام يذكرنا بما فعلته، وتفعله، هذه الطائرات في اليمن وافغانستان وسورية والعراق على وجه التحديد، من عمليات اغتيال لقيادات “القاعدة” وحركة طالبان و”الدولة الاسلامية”، فهل هناك خطة امريكية لتنفيذ عمليات اغتيال مماثلة لرموز النظام السوري وقياداته السياسية والامنية مثلا؟
التنديد الروسي السريع والقوي بهذه الرسالة ومضمونها وتوقيتها، يكشف فهم القيادة الروسية لمضومنها ومراميها، علاوة على خطورتها، وقد جاء التنديد على اعلى المستويات في القيادة الروسية.
الرد الاول جاء على لسان ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الرئيس فلاديمير بوتين الذي اكد فيه “لا يمكن لموسكو ان تتعاطف مع الدعوات لاسقاط النظام السوري من قبل دولة اخرى باستخدام القوة، لان مثل هذه الخطوة لن تساعد في الحرب على الارهاب، كما انه من المشكوك فيه اسقاط النظام بالقوة، واذا تم ذلك فانه سيؤدي الى الفوضى”.
والرد الثاني جاء على لسان ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي الذي قال في مقابلته مع محطة “روسيا اليوم” ان بلاده ترفض تقسيم سوريا او تجزئتها مؤكدا ان على السوريين تحديد ابعاد المرحلة الانتقالية المقبلة، ومصير الرئيس الاسد، وانه ليس هناك اي داع لاختراع اي وصفات جديدة لتسوية الازمة السورية فهناك قرارات مجلس الامن”.
الرئيس بوتين نفسه لم يكتف بهذا الرد على لسانه، وعبر عنه المتحدث بإسمه وحرص في كلمته امام منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي على الاشارة بوضوح الى “ان تسوية الازمة السورية تتطلب وضع دستور جديد، واجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تحت اشراف الامم المتحدة”، مضيفا “ان الرئيس الاسد وافق على ذلك”.
ولعل النقطة الاهم في خطاب الرئيس الروسي المتعلق بمنطقة الشرق الاوسط اتهامه للغرب، وامريكا “بدعم الثورات الملونة، واحداث الربيع العربي ما ادى الى تفشي الفوضى”، في اشارة الى سورية، وهذا الاتهام صحيح، بدليل وجود خمس دول عربية فاشلة تعمها الفوضى حاليا.
***
رسالة “المنشقين” في الخارجية الامريكية، والرد الروسي القوي والرافض لها، يؤكدان بوادر ازمة في العلاقات الروسية الامريكية حول كيفية التعاطي مع الملف السوري، وبداية تملل واشنطن من جراء الهيمنة الروسية على حساب الدور الامريكي وحلفائه في المنطقة، ونحن نتحدث هنا عن المعارضة السورية المسلحة الى جانب كل من تركيا والسعودية وقطر ودول اوروبية اخرى.
ربما يكون هذا “التململ” بداية ضغط على القيادة الروسية والنظام السوري معا باتجاه العودة الى العملية السياسية ومائدة المفاوضات في جنيف بالتالي، ولكن من غير المستبعد ان يتطور الى “حرب باردة”، او “حرب بالنيابة” على الارض السورية من اجل النفوذ، وتوسيع دائرته، خاصة في ظل عودة النفوذ الروسي القوي في المنطقة على حساب نظيره الامريكي.
نحن في بداية فصل الصيف، وربما يفيد التذكير بأن معظم الحروب والانقلابات العسكرية في المنطقة العربية وقعت في اشهره الثلاثة، حزيران (يونيو)، تموز (يوليو)، وآب (اغسطس)، والقائمة طويلة لا يتسع المجال لحصرها.
الرسالة الامريكية على درجة كبيرة من الاهمية والخطورة، ومن الخطأ عدم اخذها بالجدية التي تستحق، وربما تكون مقدمة لحروب، نحن العرب والمسلمين ابرز ضحاياها.