لا أحب قراءة الظواهر ولا تحليلها بمعزل عن ظروف وملابسات نشأتها , إذ تكاد الأفكار تكون خاضعة لقانون حركي شبه ميكانيكي تفضي فيه الحركة لنتائج محددة ولا تنتهي إلا بتوقف المحرك .
ظل الالحاد ظاهرة فردية نخبوية عابرة للزمان والمكان والثقافات والأديان ، فلم يسلم منه دين ولا زمن ولا أمة .
وللإلحاد دوافع متعددة منها المتجذر والقائم على فلسفة وتأصيل عقلي منهجي بمعايير ما ومنها السطحي المناسباتي المعبر عن ردة فعل من وضع إجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي ما .
أما النوع الأول فقد كان ولا يزال موضع اهتمام فردي من نخبة تدرك أن الموقف من الدين ومن الله ليس رسالة تبشيرية ينبغي الدعوة لها وإطلاقها من عقال العقل الفلسفي إلى العامة .
فأغلب الملحدين الفلاسفة يدرك جيدا دور الدين كناظم اجتماعي وأخلاقي باعتباره منظومة ثقافية وقيمية في الحيز الجماهيري ، وهو بذلك يدرك دوره وفاعليته في تحقيق الأمن الفردي ضمن جماعة متناسقة الرؤية منتظمة الوجدان .
أما بالنسبة للإلحاد كظاهرة جماعية فلا يمكن تفسيره بالموقف من الله أو الدين بعيدا عن أنه موقف وردة فعل من أنماط التدين وضعف في أداء رسالة الدين من قبل المختصين وحملة الدعوة .
التكفير عبارة ذات مدلولين ،المدلول الأول ـ وهو الشائع إلى حد اصبح إصطلاحا ـ هو الحكم على شخص بأنه أتى فعلا أو عملا مكفرا .
لكن مدلوله الثاني أكثر عمقا وحضورا في وسط هذا الحدث ، وهو بمعنى دفع الناس للكفر ، وهو بذلك ممهد ( بكسر الهاء ) لمعناه الأول ، إذ يساق الناس للكفر اولا ثم يحكم عليهم به ثانيا .
دعوني أشرح ذلك
في العالم الاسلامي لا يعلو صوت على صوتي الملحد والداعشي ، الأول ينال من الدين باعتباره دين الواعش ، والثاني ينال من الدين بنمط فهمه له والذي لا يعتقد أن له شريكا به غير نفسه .
في هذا الخضم تقبع غالبية المسلمين في وسط حائر وخائر ، باهت الخطاب والمعالم لا يحسن تصوير الدين بعيدا عن مايراه هذا وذاك .
في اعتقادي أن للظاهرتين ذات المصدر الذي شكل رحما لنشأتهما ، فالتطرف والعنف هو نتيجة لغيرة حقيقية وغير مصطنعة على الدين و التفريط في واجباته وشيوع الفساد والجرأة على المحرمات و الخور والضعف السياسي والشتات القيمي للأمة الواحدة .
وهو بذلك دفعة قوية للتنبيه وجلب الانتباه لخطر ماثل ( ردة فعل نفسية مبالغ فيها يستخدمها الفرد والمجتمع بذات الطريقة )
بينما كان الالحاد والسخرية من الدين والحط من شأنه هو الموجة الثانية من ردات الفعل ، وهو ناتج عن قراءة للأسلام في شكله المتطرف من ناحية ، وتكذيب ضمني لخطاب متعال ومغرور يصور الأمة على أنها منبع القيم والمحافظة والصلاح بينما تغوص في درن التدني الأخلاقي والقيمي والسياسي ( إي ذات الدوافع المحركة لردة الفعل الأولى ) .
الضحية في هذه المعركة المتطرفة هو المسلم والإسلام معا .
ما يقتضيه الحال هو إخراج نسخة الاسلام التي عفت عليها العوادي وداسها الاعلام وحجبتها ألسنة اللهب ودخان التفجيرات .
هو إبراز الإسلام كراع للأخلاق وحاضن وحام لها ، و كمصدر واضح للإنفتاح والمحبة والعمل والإنسانية .
إبرازه كرحم حان على الانسان المسلم مشحون بالشفقة والغيرة على غير المسلم ، وإبراز مناحيه الخادمة للتعايش والأخوة والمصالح المتبادلة ( أذكر للإستدلال أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض الغلام وعاده صلى الله عليه وسلم ودعاه أن يسلم فأسلم وحمد الله على أن نجاه على يده من النار ... الخ . الحديث بنصه الاصلي في صحيح البخاري ) .
ثم لا ننسى دور تدني مستوى المعيشة والفساد والمحسوبية والارتهان السياسي المتازمن مع تعاط مكثف للتباهي بالفضيلة ورعاية الاخلاق .
فالبون بين الادعاء والواقع يشكل مساحة خصبة لتبني موقف من الاسلام والمسلم باعتبار الواقع يمثل الأسلام واعتبار المدعى للأخلاق المتعاطي لنقيضها يمثل المسلم .
أدعو لتكثيف خطاب ينبع من السواد الاعظم المسالم المتسامح ولن اقول خطابا وسطيا لتحفظي على تلك العبارة التي تتعلق بالطرفين ويعتمد وجودها عليهما .
فالدين بحبوحة مريحة وواسعة وليست وسطا بين نقيضيها وإنما يقتات النقيضان على أطرافها نهشا وادعاء .
وكما سلمت منهما طوال عصورها ستسلم اليوم وغدا بحفظ الله ورعايته ، وما سنفعله ليس إلا لأنفسنا تقربا لله وسعيا في المثوبة وقياما بمهمة الانسان في الارض .
وحتى لا يظل الحدث الديني مناساتيا وهو الذي أنزل ليكون حياة
--------------
من صفحة الأستاذ محمد أفو على الفيس بوك