أغلب الذين يهاجمون المحاظر والفقهاء والعلماء ومظاهر التدين اليوم في هذه الأرض، ويدعون الحداثة والعصرنة ـ قلت أغلبهم ـ لم يقدم أي إنجاز محترم في العلوم الحديثة، ولم يخدم المجتمع ولا الدولة خدمة تجعله مختلفا عن من يهاجمهم من الزاوية المدنية هذه، بل إن أغلب هؤلاء متعصب فكريا، إقصائي إلى أبعد الحدود، متزمت منزوي عاجز عن التأثر الإيجابي والتأثير المرغوب، مقلد لقشور ثقافات أخرى، منبت من محيطه وثقافته، محدود الثقافة والاطلاع والمعرفة، يتحدى مقدسات الناس ويهينهم فيها، يحسن اللعن والشتم والتأفف واحتقار من يخالفونه، لكنه لا يقدم على المستوى المعرفي والأخلاقي والعملي أي نموذج جدير بالتقليد أو التأثير، حتى في المجالات التي يدعي الاهتمام بها مثل الحقوق والمدنية والتسامح الخ فتراه ازدواجيا في تعاطيه حتى مع السجناء والمظلومين، يتمنى لو يجتث من يخالفونه الفكر من الوجود، ويعمل بمقتضى ذلك تصريحا وتلميحا، يتلذذ بتعذيب السجناء الذين يتبنون فكرا يخالفه، ويجعل من الحبة قبة إذا تعلق الأمر بعلائقه ومتشقاته، يحرض على من لا يشاطرهم الرأي داخليا وخارجيا، لا يقيم للتعايش أي وزن. وإن غصتَ في نفسياته تجده يحمل من الرجعية وأمراض المجتمع المعيقة مثل القبلية والطبقية والأنانية ما لا يحمله من يؤمن بذلك من حراس الوهم من ساكنة مضارب القبائل!
لا يمكن أن نطالب أجيال اليوم باقتصار الدراسة في المحاظر فقط على غرار أجيال رحلوا قبل قرن أو اثنين فما فوق، ولا يمكن أن ننكر حاجتنا لتعليم عصري جيد، ولأجيال تتضمن الأطباء والمهندسين والطيارين والاقتصاديين والاعلاميين والقانونيين والرياضيين والفيزيائيين والحقوقيين المسؤولين ـ نعم المسؤولين ـ بل نحن في أمس الحاجة إلى ذلك، ولكن هل يعني هذا أنه في غياب الحصول على هذا التعليم العصري يجب أن نحطم التعليم الأصلي التقليدي؟ وهل ذلك هو الخطوة الأولى نحن العصرنة هذه؟ هل تمنع محاظر الداخل والريف تطوير التعليم في جامعة نواكشوط؟ وفي الثانويات والإعداديات؟ لو لم توجد المحاظر، فما هو مصير عشرات الآلاف من الطلاب الذين تحتضنهم هذه المحاظر في سن الطفولة والمراهقة وأخطر مراحل العمر، فتوفر لهم بيئة صالحة ـ غالبا ـ من حيث الأخلاق والعقيدة، يحفظون فيها القرآن الكريم، ويتضلعون بعلوم اللغة والفقه وغيرها؟ من يقف اليوم ضد هذا الانجراف الهائل في الأخلاق، ما هو الدرع الذي يحمي من يَسْلمون اليوم من المخدرات والخمور والانحراف سوى "مروب" الدين الموجود في هذه الأرض؟ وهل توجد قنوات للمحافظة عليه أفضل من المحاظر والمعاهد؟ وآلية أفضل من تعليم النشء القرآن والفقه والعقيدة؟
من يدعي الإنفتاح والتسامح عليه واحترام الثقافات الأخرى والديانات عليه أن يبدأ من احترام خصوصية هذه الأرض، ويحترم لأهلها دينهم وثقافتهم وأصالتهم، مثلما يحترم للآخرين خصوصياتهم بل ويمتدحها ويقلدها، وعلى هذا النمط من الأشخاص معرفة أن الخصوصية الثقافية والدينية لا تعيق تقدم المجتمعات، بل المسلكيات السلبية وتلك ليست لصيقة بثقافة معينة أو خصوصية حضارية محددة. ومن يريد التغيير الإيجابي عليه أن يكون قدوة أولا وأن يعرف النواقص التي تعيق تطور المجتمع انطلاقا من خصوصية المجتمع بدل القفز على كل ذلك ومحاولة استيراد "قيم" اباراشوتيا من جهات أخرى، وإرغام الناس عليها بطريقة سيئة للغاية وسلبية للغاية ومهينة للغاية.
خذوا من العالم لبّ تقدمه، ولا تبقوا دائما رهناء تقليد القشور، واعلموا أن التطور لا تعني المسخ والانسلاخ من القيم والأخلاق والدين، وأن الأصالة لا تعني التخلف والهروب من مقتضيات العصر أيضا.
---------------
من صفحة الأستاذ محمد الأمين سيدي مولود على الفيس بوك