عندما يغني سدوم رفقة ديمي رحمها الله، صحبة ألحان شجية ومهيبة يرتد صداها يين جدران روحي المطرزة بألوان الحنين والشجن، وقتها، أشعر بشيء قوي يشبه الحبل السري يربطني بهذه الأرض المليئة بغبار المحن والمظالم والجمال، كأنني عشت فيها مليون سنة قبل ولادتي، كأنني أعرف معظم سهولها وجبالها وكثبانها وأسماء من قد سكنوها، منذ العصر الحجري وانقراض "الدايناصورات"، وحتى ظهور الانترنت ومصنع السكر.
عندما تترنم ديمي بصوتها الصافي في هزيع من الليل وسط وشوشة الرياح والذكريات؛ فأنني أرى الشراشف والزيزفون بكل جلاء، وجبل قاسيون منتصبا بكل كبرياء الشام وصبرها بين بيوت الحجر ذات الظلال المائلة جهة "دحيميس"، ووجه القمر يطل خافتا، ينتظر انحدار قرص الشمس وعودة قطعان الماعز ليلمع بكل أبهة، ونسوة هناك يجلسن فوق حصير مصنوع من سعف النخيل قد تآكلت بعض ضفائر أطرافه، يتوسطهن مسجل عتيق من طراز "SHAREP"، لا شيء يمده بالطاقة سوى تلك البطاريات الصبورة والثمينة، والمسجل يأكل الشريط بداخله أحيانا كما يأكل الزمن شريط ذكرياتنا..
إحدى تلك النسوة تكون خالتي، وفي يدها اليمنى عود من السرح(آتيل) تستاك به، وتوزع بيدها الأخرى قطع "الكيطان" بين دوائر الحفر التي يسمونها "الديار" في تلك اللعبة المسالمة التي تسمى "كرور"، والمنحوتة "كيطانها" من ثمار الهليج(توگ)، كأن تلك اللعبة تشبه محطات الحياة في خلو واكتظاظ ديارها. إن تلك الوجوه المبتهجة التي جمعتها الحياة ذات يوم قد فرقتها المنون وصروف الدهر، وتلك البساطة التي أدركت بعضها باتت مهددة بالأفول والذوبان في ظلام الجشع والأحقاد!
إنه شعور جميل أن يتسع قلبك لكل ألوان الحياة، فلو أن الحياة كانت بلون واحد، لكانت تفاصيلها باهتة جدا!
في أواخر التسعينيات وأنا صغير على ما اعتقد، وإن كنت أشك في أنني قد كبرت، كانت الحياة في مدينتنا مشحونة بالبهجة، رغم شظف العيش وقلة العطور ودنو الشمس من رؤوسنا المكتظة بقطعان القمل، ساعتها كنا نحلم بوطن مليء بالشامبو والبسكويت والأمل، وكنا نقتفي آثار المستقبل بشغف لا كلل فيه، ونظن صناديق الاقتراع قد تحمل بداخلها أصوات أحلامنا، مثلما ظننا أن تلك الدفاتر المغلفة بصفحات جريدة الشعب قد تصير زوارق آمنة نحتمي فيها من أمواج الجهالة والضيم.
أيامها..
كانت هناك بريطانية تدعى "فلور"، وهي فتاة شقراء صقيلة الأسنان، تنبعث من ثيابها الشفافة رائحة الريف البريطاني الأنيق، وتختبئ داخل عينيها المتقدتان صلابة الأستكلانديين ودهاء الانكليز، كانت تزورنا في المنزل وتتجاذب معنا أطراف الحديث، كنا نعد لها مرق الدجاج وكانت تجيد العربية، كانت خالتي من الرضاعة تدعوها إلى الإسلام وتعلمها أحكام الصلاة، وكانت فلور تبتسم لها وتبدي لها إهتماما كبيرا، بحيث تعتقد خالتي لطيبتها أن "فلور" ستنطق الشهادتين قبيل الغروب، بينما كانت شارة الصليب ترتسم على قسمات "فلور" بشكل خافت ومؤدب، رغم ذلك كانت خالتي من الرضاعة تتحلى بروح التسامح والحوار وتجادلها بالتي هي أحسن، بالرغم أن بضاعتها المعرفية مزجاة، لكن إيمانها كان صادقا ومتينا ولا تخاف عليه من الاختلاف، ولا تحتمي بثقافة الإقصاء والعنف لتبرر صواب تصوراتها. لقد تذكرت خالتي من الرضاعة، وأنا أرى ثقافة الشتائم والإقصاء تحرق عقولا يدعي أصحابها الانفتاح وامتلاك الحجة للأسف الشديد!
البعض رأى أن ردي على وزير المالية كانت لطيفا أكثر من اللازم، حينما علق-مشكورا-على منشوري المتعلق بالرواتب والعلاوات المتأخرة، وذلك بعد تبشيره بنعيم اقتصادي تلوح بوادره في الأفق، بكل صراحة لست من المتحمسين للسب والتجريح والفجور في الاختلاف!
عندما تقول لي إن: 5+6=16
سأحاول أن أقنعك بأنها تساوي 111، ولا علاقة للنقاش بعرضك ولا بالقذف والحظر، وبالمناسبة فإن العلاوات والرواتب المتأخرة لم تدخل بعد، لمن يهمه الأمر!
في إحدى حصصي فتحت نقاشا مع التلاميذ حول جدوى المراجعة دون تنظيم وتركيز، تكلموا جميعا بشكل مبعثر مما ولد صخبا وضجيجا، تركتهم لعدة دقائق! بعدها قمت بإسكاتهم بصعوبة وقلت لهم: "هل سمع أحدكم فكرة ما خلال ازدحام مداخلاتكم العشوائية"، قالوا: "لا"
قلت لهم: " لأنكم تنازعتم الكلام ولم تستمعوا لبعضكم بشكل مؤدب، ذابت أفكاركم في الضجيج والانفعال"
وهكذا المراجعة أيضا، عندما تفتقد التنظيم والتركيز تصبح عديمة النفع، ومهما كان وقتها طويلا..
علينا أن نصغي بتركيز لحديث الأيام، لنتعلم الحكمة.
فعندما تقفون تحت تلك السماء الرحبة، وتتفكرون في ضخامة الكون وملكوت الله بروح خالية من كل شوائب التكبر والإقصاء، ستدركون أن ثقافة التزمت والكراهية تتنافى مع التدافع والإعمار، والله تعالى أعلم.
هنا تامشكط، ويبدو أن الصيف قد داهمنا على حين غرة منا، اليوم باغتتنا رياح "أريفي" محملة برسائل الصحراء القاسية، لو أنهم قاموا بتكييف الأقسام الدراسية-وهو حلم يشبه الكابوس-لهون علينا ذلك وطأة الصيف، والذي تعرقل حرارته سير تقديم البرنامج السنوي...
هذا النص برعاية شريط البهتان لسدوم وديمي، وأهديه لجاليتنا في الخارج ولكل المصابين بالأرق ولسكان دار البركة.
الساعة 01:044 صباحا، وأقول قولي هذا وأستغفر لي ولكم
------------------
من صفحة الأستاذ خالد الفاظل على الفيس بوك