عبّر كثير من المسلمين عن ارتياحهم وفرحتهم بالانتصار غير الكبير الذي حققه أردوغان يوم الأحد عبر استفتاء أقل ما يقال فيه استفتاء على دكتاتورية جديدة، لم يعهدها العالم في إطار من الديمقراطية المزعومة التي لم نعد نفهم معناها اليوم بعد تشابك المصالح الذاتية بالمسؤوليات المهنية، ورغم أن الاستفتاء جاء بنتيجة متواضعة للرئيس التركي فهي تعبر عن انقسام كبير في المجتمع التركي، وما زال الشعب التركي تحت وطأة الصدمة التي لم يستوعبها بعد، والتي جعلت تركيا أمام خيار جديد للسياسة الحديثة، وبعد أن رأى أردوغان أنه سيترك السياسة عما قريب أفرغ جهده وجنده لتعديل دستوري يخدم مصلحته الشخصية بالدرجة الأولى حيث ستجعله الآمر الناهي الذي يقصي من يشاء ويدخل في الحكومة من يشاء، والذي سيصدر المراسيم الواحد تلو الآخر دون مناقشة ولا استفتاء، وهو الذي أعاد عقوبة الإعدام بعد أن تم إلغاؤها في 2004 دفاعا عن حقوق الإنسان.
بهذه التعديلات الدستورية سيصير حكم الإعدام نافذا في حق أكبر معارضيه الذين ما زال يمثلون شوكة في حلقه وهو عبد الله أوجلان وأتباعه، رغم إعلان أوجلان أنه تخلى عن التمرد العسكري، وبهذه التعديلات على الدستور سنرى السلطان التركي وهو يفرد جناحيه في الحكم في تركيا لا يشاركه أحد لا يلدريم ولا أوغلو ولا غيرهم من رجال الساسة البارزين، فهو الرجل الأوحد والأبرز في الساحة التركية إلى سنة 2029م، وبعدها سيفكر في طريقة أخرى ليعدل الدستور من جديد ويبتكر طريقة حديثة تتماشى مع منطقه السياسي الذي يتحدى به الديمقراطية من أوسع أبوابها، ويبقى أردوغان الرجل الذي تتغنى به الأمة اليوم رغم الانتكاسات في كل المجالات والصعوبات التي تمر بها المنطقة المحيطة بأردوغان، فما عساه فاعل أردوغان؟.
وعوض أن يهتم المسلمون في أصقاع الأرض بآلام الأمة، يتغنون بنصر أردوغان، فالمسلمون اليوم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم يعانون من الحروب والمجاعات والكوارث والنزاعات والعرقيات، بدءا بالعراق وسوريا واليمن وليبيا إلى السودان والصومال ونيجيريا وكثير من البلدان، هناك نصف مليون مسلم على حافة المجاعة وبالتالي الموت البطيء وهناك ملايين من الأطفال يموتون في الحروب ومن سوء التغذية في البلدان التي تعاني من الجفاف، وكثير من اللاجئين يعانون من البرد والحر في ظل عالم مستغل لا يعرف إلا مصلحته ولا يهتم بالبؤساء في كل مكان.
وهذا القدس الشريف الذي نحتفل بعد أيام بذكراه حينما أسري بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليه من مكة المكرمة على ظهر البراق ليعلن أن البيت بيت المسلمين وأنه مسجد حرام مثل بيت النبوة في المدينة المنورة والكعبة في أقدس مكان على وجه الأرض، فاليوم المسلمون مغرمون بنصر أردوغان في الاستفتاء وينسون مسجدهم الحرام في القدس، ينسون البلد الذي أغرقه الصهاينة بالمستوطنين، والحفريات التي تهدد أركانه من كل الجهات، ينسون ما يعانيه الشعب الفلسطيني على مدى ستين عاما ولم تقم للمسلمين قائمة، ولم يتحرر المكان المقدس بل نرى مستوطنين مدججين بالسلاح يدخلون المسجد الأقصى بحماية الشرطة اليهودية ولا نقيم لذلك وزنا.
هل هي الغفلة أم ماذا حصل للمسلمين في أصقاع الأرض، يمجدون الأشخاص ويهرولون وراء الوهم، ويبحثون عن الفتات ويتركون ما هو أهم في هذه الحياة، لا أدري كيف يتوجه الناس نحو الحياة وكيف يفهمون الملفات والمهمات؟ أهم يدركون أنهم في واد متشعب من الأفكار والمزايدات أم إن الإعلام أعماهم عن قضاياهم المهمة والملحة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، بالأمس أضرب 1500 أسير فلسطيني في السجون الصهيونية ولم يحرك مسلم ساكنا ولم يشر إليهم أحد على شبكات التواصل الاجتماعي، بينما تتصدر الحكايات التي تمجد أردوغان لتجعله أضحوكة هذا الزمان، بعد أن أجرى تعديلا يخول له كشخص أن يبقى في السلطة لسنوات وسنوات، لماذا هذا التصحر الفكري الذي عمّ عقول المسلمين في هذا الزمان؟
يا لها من حكاية وحكاية هذا الزمان لم تنته، حكايته عقيمة وعميقة، كيف نحكي أن سلطانا عثمانيا جديدا سيحل في تركيا وسيحكم الأتراك بيد من حديد، سيفتك بمعارضيه كما فعل الحجاج بن يوسف، وسيلقي بكرسي الحكم في بيته إلى إشعار آخر، حتى تظهر الحقيقة من جديد وحتى يتبين الخط الأبيض من الخيط الأسود.