توقفت عند رسم كاريكاتيري في إحدى الصحف العربية مصورا الحالة العربية، ومجسدا العربي وهو يتغنى بأبيات من قصيدة للمتنبي والتي يقول فيها: “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم” … ومبينًا لنا حالة العالم المتقدم وهو يفكر كيف ينتقل إلى آفاق أوسع علميا في اكتشاف الفضاء الخارجي!! ونحن ما زلنا نتغنى بامجاد الماضي الذي تعرفنا عليه من خلال الكتب والقصص.
كان الرسم معبرا عن الحالة التي مازلنا نعيشها، ونتعايش معها كل يوم على الرغم من الكثير من التوصيات، والقرارات، والأصوات، والملايين التي تنفق في مجال تطوير المنظومة العلمية، والاقتصادية، إلا أن هناك حلقة لا زالت مفقودة، وحتى لا أبدو أقل تفاؤلا أعتقد أن هناك أكثر من حلقة مفقودة في العالم العربي، وإن كانت هناك بعض من الدول التي استطاعت أن تقطع أشواطا في بناء مستقبل زاهر للاجيال القادمة الا أن البعض الآخر مازال متعثرا، والتعثر أصبح جليا مع استمرار الأزمة الاقتصادية .
الحلقة الأولى: التخطيط للمستقبل ،فعند اكتشاف النفط بكميات اقتصادية كان يمكن أن يستثمر باحترافية، ورؤية مستقبلية، فتصبح تلك الدول في مصاف الدول المتقدمة، وإن خططوا من أجل المستقبل، فالثروة النفطية كانت ناضبة لا محالة، والعالم لم يتوقف قبلا أو يوما عن البحث عن مصادر طاقة بديلة.
إلا أن الإعداد للمستقبل أخذ شكلا مختلفا، فكان استهلاكا للموارد النفطية، وعائداتها أكثر من بناء قاعدة إنتاجية، وتأسيس اقتصاد متنوع حتى بات النفط المصدر الرئيس للدخل في كافة الدول العربية في حين أن هناك من الدول كالنرويج مثلا استفاد من النفط في انشاء الصناديق السيادية وبناء اقتصاد متنوع يحقق للأجيال القادمة موردا مستداما.
الحلقة الثانية: التعاطي مع الازمات بازالة مسببات المشكلة ، إن الأزمة الاقتصادية التي بدأت في العقد الأول من الألفية، والمستمرة في تبعاتها كشفت النقاب عن تحديات كثيرة تواجه هذه الدول نتيجة اعتمادها بما يتجاوز ٨٠٪ على النفط كمصدر الدخل تبنى عليها موازناتها التنموية من أبرزها مشكلة البطالة التي تتفاقم مع زيادة المخرجات كل عام، والتراكم المطرد لاعدادهم دون ايجاد حلول فعلية لعدة تحديات من أبرزها ، النمو البطيء للاقتصاد المحلي، واستغلال القطاع الخاص للثغرات التشريعية في قوانين العمل للتهرب من توطين الوظائف، وضعف المساهمة المجتمعية للقطاع الخاص، وضعف ثقافة العمل لدى العمالة الوطنية نتيجة عوامل اجتماعية، وثقافية، وتربوية وتعليمية، وندرة المخرجات الفنية، والتكنولوجية التي تعد الوقود لدفع عجلة الاقتصاد الوطني، ترهل القطاع العام نتيجة حشوها بالمخرجات التعليمية التي لا تلقى شواغر وظيفية في القطاع الخاص ما يؤدي الى خلق مشكلة جديدة بطالة مقنعة تشل حركة القطاع العام نتيجة طول سلسلة اجراءات العمل ( البيروقراطية )ومن ثم بطء في نمو القطاع الخاص .
كما أنّ لها تبعات تتراكم مع مرور الوقت، فعلى سبيل المثال، تلك التأثيرات الاقتصادية الناتجة عن توفير أجور دون عمل فعليّ، وهذا يثقل كاهل الدولة وأخرى مشكلات أمنية نتيجة الفراغ الكبير ، وما يخلفه من انتشار الجرائم، والمشكلات الاجتماعية، والنفسية التي أصبحت تؤثر في سلوكيات الباحثين عن العمل، ناهيك عن هدر الطاقات وهم في عمر العطاء .
وعلى الرغم من سعي تلك الدول لإيجاد حلول لهذا التحدي باستيعاب أعداد كبيرة من المخرجات بالمؤسسات الحكومية الذين لا يستوعبها القطاع الخاص لأسباب أخرى سنذكر بعضا منها لاحقا إلا أن المشكلة مازالت قائمة بل ظهرت مشكلات جديدة نتيجة تكدس المؤسسات بالعمالة الزائدة وتحولهم إلى بطالة مقنعة لا يمكن استيعابهم للهوة المتسعة بين المناهج والتخصصات التعليمية وبين الاحتياجات الحقيقية لسوق العمل المتجدد من أبرزها تشابه في التخصصات الأكاديمية والتركيز على تخصصات بحد ذاتها عن أخرى و ثقافة تفضيل الدراسة الأكاديمية على المهنية ، أما الجانب الآخر من المشكلة يمكن في التنافسية بين العمالة الاسيوية والوطنية خصوصا في الأعمال التي تتطلب المهارة الفنية والمهنية، ورسوخ بعض الانطباعات السلبية التي تدور فحواها حول عدم مهنية العمالة الوطنية فعلى سبيل المثال يبلغ نسبة الوافدين في دول مجلس التعاون ما يقارب ٣٨,٩٪ من إجمالي نسبة السكان وفقا للمركز الاحصائي الخليجي ،٢٠١٥ وأكثرهم من الجنسيات الآسيوية، ويشكلون ما يقارب 70% من سوق العمل ، فعلى سبيل المثال تبلغ قيمة التحويلات السنوية من العمالة الوافدة من الخليج إلى أسرها 80 مليار دولار
إنّ ما يحدث اليوم كان متوقعا في جميع الأحوال، وما غفلت عنه بعض الدول هو الأعداد الجيد للاستغناء عن النفط، وتنويع مصادر دخل وفقا للموارد المتاحة، كما فعلت النرويج، وبعض الدول الآسيوية، والأوروبية ولا أفضل من الرأس المال البشري كمصدر أساسي يمكن الاعتماد عليه لتنويع مصادر الدخل فهو ثروة متجددة ومرنة وقادرة على التكيف والابتكار.
وتنميته ليس بالأمر الصعب إن وجدت استراتيجية طويلة المدى لا تتوقف بتغير إدارات المنظومات، أو المؤسسات، فهي باقية ومستمرة وفق رؤية تضعه الدولة لاستمرار كيانها في الوجود، ولعل تجربة الهند والصين أصدق مثال على إمكانية التحول إلى دولة منتجة للعلم، فالهند أطلقت أكثر من قمر صناعي محلي الصنع ولديها الآلاف من براءات الاختراع المسجلة والصناعات، وهذه كانت نتيجة سياسات انتهجتها الهند بتحفيز أبنائها على الالتحاق بالتعليم المهني والتقني وتقديم تسهيلات جمة لهم.
والأمر ذاته ينطبق على البرازيل التي أصبحت دولة منتجة ومنافسة بعد أن كانت تعاني من مديونيات عالية، كل ذلك بفعل الخطط الاقتصادية القائمة على مواكبة التطورات العلمية والمهنية والتقنية. وتطوير المنظومة التعليمية؛ فالجامعات والمعاهد البرازيلية توفر فرص التعليم في التخصصات المهنية التطبيقية، انسجاماً مع متطلبات سوق العمل.
وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية في الموضوع، أو الحلقة الأهم ألا وهو الانسان (المورد البشري) وهو سبب رئيس في نهضة الأمم أو تخلفها خاصةً المواطن المراد منه تنمية مجتمعه وتطويره وهذا يتحقق فقط إن توفرت له سبل النجاح.
الحلقة المفقودة إذن في العالم العربي، والذي يقف في طريق النهوض الاقتصادي هي “جودة التعليم”، فالدراسات تؤكد أن مسلسل تراجع جودة التعليم مستمر في أغلب الدول العربية، فهي إما أن تكون في ذيل التصنيفات العالمية، أو تغيب عن القائمة، علما بأن الدول العربية تمتلك الكثير من الكفاءات الغائبة عن المشهد التنموي إما بالهجرة أو بالإقصاء
وفي السنوات العشرين الماضية شهدت الدول العربية نموا طفيفا بنسبة لا تكاد تذكر في مجال التطور العلمي فما تخصصه الدول العربية مجتمعة في مجال البحث العلمي لا يزيد عن ١٪ وعادة يصرف كرواتب، والأمر ذاته ينسحب على الإنتاج العلمي، والبحثي الذي يعاني من تحديات كثيرة كنقص الباحثين المتخصصين، وضعف المخصصات البحثية، وعدم وجود بيئة مشجعه للبحث العلمي.
وفي هذا السباق الاقتصادي المحموم، والتراجع المستمر في التعليم الذي يفسره البعض بأنه نتيجة غياب الإرادة الحقيقية لدى الإنسان العربي للنهوض نتيجة عوامل كثيرة داخلية، وأخرى خارجية مهما كانت الأسباب، والنتائج، فإن الخلل كله نتاج السياسات التعليمية، والتربوية التي أغفلت جوانب مهمة في بناء الإنسان فكريا، ومهنيا، ومعرفيا، وأخلاقيا.
ولا يمكن أن نحمّل الحكومات وحدها هذا التراجع، فمسألة بناء الانسان مسؤولية مشتركة بين الأسرة، ومؤسسات المجتمع المدني، والقطاع العام والخاص ، وكما يقول المثل “أن أصل متأخرا خيرٌ لي من ألا أصل أبدا”، يمكننا تصحيح المسار الآن بوضع خطط شاملة لسياسات تعليمية ديناميكية ذات جودة تستشرف المستقبل، وتعد الإنسان علميا لكي يخوض معترك الحياة بسلاح العلم، والمعرفة، وتشارك في إعداد الخطط المؤسسات المختلفة والأسرة التي يعتمد عليها في ترسيخ المفاهيم التربوية الصحيحة، فالتعليم الجيد يعني: لا بطالة دائمة أو اقتصاد ذا مورد أحادي
كاتبة وباحثة عمانية