توقف الكثيرون، ونحن من بينهم، عند اقدام الأمير محمد بن سلمان على تقبيل يدي “خصمه” وابن عمه الأمير محمد بن نايف، اثناء مبايعة الأخير لولي العهد الجديد، مثلما توقف هؤلاء عند خروج الأمير بن سلمان عن النص، وركوعه على الأرض في محاولة لتقبيل قدمه، ولكن يبدو انها ليست حادثة منفردة، وهناك سوابق عديدة مماثلة في تاريخ الاسرة الحاكمة السعودية، ليس على صعيد عزل الخصوم، وانما على صعيد تقبيل اياديهم أيضا.
يروي الكاتب البريطاني روبرت ليسي في كتابه الشهير “المملكة”، ان العاهل السعودي الراحل سعود بن عبد العزيز، عندما غادر الى المطار في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1964 لاستقلال طائرة خاصة تنقله وافراد اسرته منفيا الى اليونان عبر مطار بيروت، بعد قرار عزله بأمر من الاسرة الحاكمة، وبمباركة المؤسسة الدينية، وتدخل مباشر من السفير الأمريكي في الرياض في حينها، وجد في المطار صفا طويلا من العلماء والامراء ورجال الدولة، جاءوا لوداعه، وكان في آخر صف المدعوين خصمه الذي أطاح به وحل مكانه شقيقه الملك فيصل بن عبد العزيز، وحين وصل الملك سعود اليه (أي الملك فيصل) انحنى الأخير المنتصر اجلالا لشقيقه المعزول، وقبل يده بكل تواضع، فرد الملك سعود على هذه المبادرة (ذكرها ايضا الزميل جعفر البكلي في مقال له بصحيفة الاخبار) بقوله “الله يعينك” فرد الملك فيصل قائلا “الله يعزك”، وكان هذا آخر لقاء وآخر واقصر حوار بين الشقيقين.
***
هذا السيناريو تكرر حرفيا اثناء مبايعة الأمير بن نايف لابن عمه الذي اخذ مكانه، باستثناء محاولة تقبيل القدم، وكان الحوار بين الجانبين متشابها تقريبا، فقد قال الأمير بن نايف “اعانك الله.. انا ارتحت” فرد الأمير بن سلمان قائلا “الله يعزك.. لا نستغني عن توجيهاتك”، ولكن اذا كان لم يقبل بها وهو في السلطة، فهل سيقبل بها بعد خروجه منها؟
خيارات الأمير محمد بن نايف كانت محصورة في خيارين، اما ان يتقبل الامر الواقع ويبايع ولي العهد الجديد ويحصل على عدة مليارات كـ”مكافأة” مقابل الطاعة والولاء، او مواجهة الأسوأ، فاختار الأول سائرا على نهج عمه الأصغر الأمير مقرن، وعلى عكس عمه الأكبر الملك سعود، و”تمنعه” او “حرده” ربما يفسر عدم اصدار أي منصب، ولو شكلي له.
تحديات عديدة وصعبة تقف في طريق ولي العهد الجديد، بعد ان أزال العقبة “البروتوكولية” الكبرى من طريقه، ابرزها خطوة تعيينه لولي ولي العهد، المنصب الذي شغر بعد ترقيته، فاذا صحت الانباء التي تقول ان الملك سلمان في حالة صحية “غير مطمئنة”، وانه يمكن ان يتنازل عن العرش في غضون اشهر لنجله وولي عهده، فان من المحتم مليء هذا المنصب الشاغر بأسرع وقت ممكن، والسؤال المطروح هو: هل سيعين فيه احد اشقائه، وخاصة الأمير خالد السفير الحالي في واشنطن، في كسر واضح للتعديلات التي اجراها والده في النظام الأساسي التي تمنع ذلك، او يختار احد المقربين والموالين له من فروع اسرة الملك المؤسس عبد العزيز ولو الى حين، أي بعد ان يتولى العرش ويغير النظام الأساسي، او بعد ان يكبر ابنه البكر؟
الأمير بن سلمان، وبحكم منصبه الجديد كنائب لرئيس الوزراء، سيدير شؤون الدولة رسميا بملفاتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، وهذا عبء كبير في ظل انخفاض أسعار النفط، وتعاظم أعباء الحرب الحالية التي تخوضها المملكة في اليمن، والقادمة (في او ضد ايران)، والوشيكة ضد دولة قطر، في حال لم ترضخ للمطالب المفروضة عليها.
ولعل النقطة الأبرز التي يروج لها أنصاره في وسائل الاعلام خاصة، رغبته في تحويل المملكة الى قوة إقليمية تقود مشروعا عربيا يواجه المشاريع الإيرانية والتركية (لا ذكر لإسرائيل مطلقا)، ولكن هذا الطموح لا يمكن تحقيقه بالنوايا والتصريحات الإعلامية، ولا حتى بتكديس أسلحة حديثة وسلاح جوي قوي، وانما برؤية داخلية سياسية واجتماعية جذرية، فالمشروعان التركي والإيراني يقومان على أسس ديمقراطية، وتعايش طائفي وعرقي، وقضاء عادل مستقل، والحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وبرلمانات منتخبة، وإعلام يتصف بنسبة عالية من الحريات، واقتصاد قوي، وحتى هذه اللحظة لا يوجد أي اثر لاصلاحات وخطوات في هذا الاتجاه، مع اعترافنا بأن هناك رؤية اقتصادية ما زالت في بداياتها، ومن الصعب إعطاء آراء قاطعة حولها.
***
واذا كان السفير الأمريكي باركر هارت حسم مسألة الخلافة لصالح الأمير فيصل عام 1964، عندما حرك سلاح الطيران، فان الرئيس دونالد ترامب نفسه الذي قيل انه ابدى اعجابه بالامير الشاب بن سلمان اثناء لقائه الأول به في الشهر الأول من توليه السلطة (علاوة على مبلغ 460 مليار دولار)، لعب دورا كبيرا في وصول الأمير بن سلمان الى ولاية العهد، وتسهيل خطوة عزل بن نايف، ولكن السؤال هو عما اذا كان ترامب سيكمل ولايته في ظل الفضائح التي تواجهها ادارته؟
نترك الأمير بن سلمان منشغلا في فرحته بالمنصب الجديد، وتلقي طقوس “البيعة” من افراد الاسرة الحاكمة، ورجال الدولة، وأعضاء المؤسسة الدينية، وقلة القلة من الشعب، وننتظر ما يمكن ان يقدم عليه من خطوات مقبلة، ولا شيء يمكن استبعاده على الاطلاق، على صعيد الحروب على وجه الخصوص.