مرت أمس الخميس الذكرى الـ25 لاغتيال الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف يوم29 يونيو/حزيران 1992، في مدينة عنابة ( 600 كيلومتر شرق العاصمة)، على يد أحد أفراد قوات التدخل الخاص، بحسب الرواية الرسمية، روايات كثيرة وشهادات متناقضة، ومتهم وحيد حكم عليه بالإعدام، وهو يقبع حالياً في أحد السجون بالعاصمة، لأن حكم الإعدام معطل منذ سنة 1994، ربع قرن مر على عملية اغتيال شاهدها الجزائريون على التلفزيون، من دون أن تفك شفرة هذه الجريمة، التي ستبقى ولا شك لغزاً كبيراً، يضاف إلى سجل الاغتيالات السياسية في العالم، والتي لم يكن الوقت كفيلاً بفك ألغازها وأسرارها.
محمد بوضياف شخصية ثورية تاريخية اختلف مع نظام ما بعد الاستقلال، واختار الاستقرار في المغرب، حيث كانت تربطه علاقة ود مع الملك الحسن الثاني، وكان يملك مصنعاً صغيراً هناك لصناعة مواد البناء، وكان قد قلب صفحة السياسة والمسؤولية في الجزائر، وهي بدورها نسته أو تناسته، ولكن لما وقعت الأزمة ووجد الممسكون بزمام الأمور أنفسهم في ورطة بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما قرروا إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر/ كانون الأول 1991، بعد أن استقال الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد أو دفع إلى ذلك، ودخلت البلاد في فراغ دستوري، قررت قيادة الجيش الاستنجاد بشخصية وطنية وثورية معروفة بماضيها الناصع البيـاض، فطرح اسم محمد بوضياف، ونال الموافقة سريعا، وكلف علي هارون وزير حقوق الإنسان آنـذاك، والـذي كـانت تربـطه عـلاقة صداقة مـع «سي الطيب الـوطنـي»( الاسم الثوري لبوضياف) بأن يسافر إلى المغرب، ويعرض عليه الوضع واقتراح «الجماعة» بأن يتولى رئاسة الدولة، في إطار هيئة رئاسية خماسية، ولكن الذي حدث هو أن بوضياف رفض العرض، وعاد هارون يجر أذيال الخيبة، ولكن بعدها بـ 24 ساعة عاود بوضياف الاتصال بضيفه وقال سأكون غداً في الجزائر، في هذه النقطة بالذات تحوم تساؤلات حول الأسباب التي جعلت بوضياف يغير رأيه، واحدة من الروايات المتداولة، تقول إن الملك الحسن سمع بالعرض، وأنه أقنع بوضياف بقبوله، وأنه يكون قد فعل ذلك، آملاً أن يؤدي وصول «صديق» له إلى سدة الحكم في الجزائر، إلى إيجاد حل لمشكلة الصحراء الغربية.
وتولى بوضياف رئاسة المجلس الأعلى للدولة، وشرع في تسيير بلد كان شبه منهار، فالجزائر كانت تعيش أزمة سياسية خانقة، بسبب تبعيات قرار إلغاء نتائج الانتخابات، وأزمة أمنية عنيفة انبثقت منها، بسبب ظهور جماعات إرهابية، وأزمة اقتصادية كانت قد بدأت منتصف الثمانينيات، وأزمة اجتماعية، وأيضا أزمة ثقة بين الشعب والسلطة، بين الحاكم والمحكوم، وهو الأمر الذي جعل بوضياف يطلق سياسة اليد الممدودة، وسياسة الجزائر أولا، ويعلن الحرب على المافيا المالية ـ السياسية، ورغم حالة الانهيار واليأس التي كانت تعيشها البلاد، إلا أن بوضياف استطاع أن يبعث بالأمل في النفوس، وخاصة الشباب، هذا الرجل القادم من أرشيف الثورة استطاع ببساطته وعفويته أن يخطف الإعجاب.
لكن الأمور في الكواليس لم تكن تسير على ما يرام، فالرئيس بوضياف الذي يمارس الحكم بل مارس الثورة، اصطدم بالبروتوكول وبضروراته، ومن ثمة دخل في صدام مع الذين جاؤوا به إلى سدة الحكم، فبعض الروايات تقول إن بوضياف هدد بالاستقالة أكثر من مرة، وأنه غادر في مرة نحو المغرب، على أساس أنه لن يعود مجدداً، قبل أن يعدل عن رأيه بعد وساطات، كما أن إصراره على إقامة حفل زفاف ابنه في المغرب كانت سبباً في مشكل بينه وبين الجنرالات النافذين آنذاك.
في يوم 29 يونيو/حزيران 1992 كان «سي طيب الوطني» على موعد مع قدره، وذلك خلال الزيارة التي قام بها إلى مدينة عنابة، كان وحيداً في تلك الزيارة، كذلك الذي ترك يواجه مصيره لوحده، فلم يرافقه في تلك الزيارة أحد من كبار المسؤولين، بما في ذلك وزير الداخلية الأسبق اللواء العربي بلخير، وهو ما زاد بعد ذلك في تعزيز نظرية المؤامرة، ففي الوقت الذي كان بوضياف يلقي كلمته أمام الحضور في دار الثقافة بعنابة، سمع صوت دوي انفجار، وذلك في الوقت الذي كان بوضياف يتلفظ بكلماته الأخيرة»: الذين سبقونا سبقونا بالعلم، ودين الإسلام…» عندئذ ظهر الملازم لمبارك بومعرافي من القوات الخاصة ليفرغ سلاحه الرشاش في جسم الرئيس بوضياف، الذي توفي قبل أن يصل إلى المستشفى بعد إصابته برصاصات قاتلة في الرأس، وليقوم بومعرافي بتسيلم نفسه إلى مركز الشرطة، معترفا أنه هو قاتل الرئيس بوضياف.
الرواية الرسمية تصطدم بعدة ثغرات وتناقضات، فأرملة الرئيس بوضياف قالت في تصريح سابق إنها شاهدت فيديو اغتيال الرئيس، لأن الكاميرات كانت تصور ما جرى، وأن البنية الجسمية للقاتل الذي رأته تختلف عن بنية الملازم بومعرافي، الذي لا يعرف أحد كيف ألحق بالفريق الخاص بحماية الرئيس في آخر لحظة، وبأمر مهمة منفصل عن بقية زملائه، بالإضافة إلى تساؤلات عديدة، عن سبب عدم مرافقة المسؤولين للرئيس في زيارته، وكذا عن الأخطاء القاتلة التي ارتكبها فريق الحراسة، الذي لم يطلق حتى رصاصة واحدة نحو بومعرافي، الذي نفذ مهمته وغادر القاعة، قبل أن يسلم نفسه طواعية، ليبقي اغتيال الرئيس بوضياف من أكثر الألغاز تعقيداً، والذي يصعب توقع أنه سيحل في يوم من الأيام.
القدس العربي