أحيانا يصدمك البعض أو يفاجئك بأن فئة ما من الفقهاء أو طائفة من الناس تترك السنة الصحيحة الصريحة لقول فلان من الأئمة أو علان من العلماء
والبدهي أن الأمر بهذه الصورة لايمكن استساغته ولا تصور قبوله أو مجرد التفكير في ذلك عقديا لأن التشريع أمر نقلي لايعرف إلا بالوحي ولايمكن أن يبلغ التشريع المكلف به غير الموحى إليه عليه الصلاة والسلام وما عداه من أشخاص نقلة فقط لتلك الأمانة التي أداها النبي صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه والرسالة التي بلغها عليه الصلاة والسلام أحسن تبليغ جزاه الله عن الأمة خير ماجازى نبيا عن أمته
.ومن ثم يصبح لغرابة هذا التقابل وجاهته ويصبح للمطالبين بالضرب به عرض الحائط مسوغ مقنع . فأنى لأي مسلم أن يجد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعرض عنه صفحا ويركن لخلافه مهما كان المخالف ؟
يتكئ البعض على هذه الخلفية ويشن حربه الشعواء دون هوادة على كثير من الفروع الفقهية والأقوال التي يظهر عند الوهلة الأولى أنها تصادم نصا صريحا من الحديث النبوي الشريف وينفخ ذلك البعض في قربة مثقوبة وهو يدعو الناس لتجاوز كل الموروث الفقهي والعمل مباشرة بنصوص السنة كما يراها هو أو يعتقد تنزيلها أو يفهمما وفق مستواه المعرفي وحظه العلمي
بيدأن الأمر عند التحقيق والتدقيق يأخذ بعدا آخر لامجال فيه لخطين متقابلين أحدهما قول للمعصوم المبلغ عن الله تبارك وتعالى والثاني كلام مجتهد ليس كلامه معصوما فقد قيض الله لهذا الشرع رجالا نقحوه وشذبوه وبذلوا أوقاتهم وجهودهم في جمع السنة وتنقيحها وقل الشيء ذاته في استباط الأحكام منها واستنطاقها لمعرفة أحكام الجزئيات غير المتناهية من الآيات والأحاديث المتناهية
ولعل أعظم علمين أنتجتهما الثقافة الإسلامية هما علم الحديث الذي مكن الأمة من معرفة الصحيح "سندا" ودرجته من غيره وفق ضوابط علمية جليه ومؤسسة على قواعد صلبة ومتينة وعلم أصول الفقه الذي يمكن من التعامل مع "المتن" وقراءته واستنباط الأحكام منه ..ومن لم يكلف نفسه عناء الخوض في هذين العلمين بدقة وروية سيستهل انتقاد الأئمة والتسرع في اتهام بعضهم برفض نصوص السنة الصريحة الصحيحة وما هو فيها بمحق وما أولئك عن السنة بغافلين
أحيانا يتبادر للذهن أن الإمام فلانا يخالف نص السنة الصحية وهو خلاف ليس له مبرر في الظاهر ولكن عند التحقيق والتأني سنجد أن ذلك الإمام إنما خالف هذا الحديث بناء على حديث آخر أو فهم لنص آخر انطلاقا من قواعد يعرفها أهل الصنعة وبالتالي فالقول بأنه يخالف الحديث أو لايعمل به فرية كبرى نتجت عن ضيق الأفق وعدم الاطلاع على القواعد التي يتبعها الإئمة في التعامل مع النصوص.. فكم من إمام يدرك قبل غيره صحة حديث ما سندا لكنه لايرى دلالته الظاهرة انطلاقا من معارضته لنص آخر أقوى منه وبالتالي يصبح عدم العمل به امتثالا للسنة وأخذا بالأقوى منها وفق المنهج المتبع في الاستنباط وليس رفضا لها لمن ألقى السمع وهو شهيد
وقد يكون الإمام كذلك على دراية بالحديث ولكن درجته من الصحة تجعله يعتمد على أصل آخر أكثر وجاهة عنده في الصحة كما هو حال عمل الإمام مالك رضي الله عنه مع عمل أهل المدينة مقابل حديث الآحاد أحيانا..
لايعني هذا البتة أن كل أحد له الحق أن يفهم هذا الحديث فهما معينا قد يلغي به أحاديث أخرى أو يحرف دلالاتها فالأمر من ذلك بعد المشرقين.. فللأمر ضوابط وقواعد ومنهج علمي صارم من اتبعه واهتدى بهديه كان قوله مقبولا ومنسجما مع أوامر التشريع ومن تعامل مع النصوص خبط عشواء بعيدا عن ذلك المنهج ضل وأضل وحز في غير مفصل وقال على الله مالا يعلم.
لاننكر أن بعض الفقهاء غفر الله لهم تارة يغالون في تفريعات جزئية لامستند لها وأغلبها من باب الافتراض وقد يؤدي ذلك إلى تجاوز بعض الأمور التي تكاد تكون محل إطباق مما يحتم على أهل الفن غربلة الفقه خاصة بعد أن توفرت الكتب وأصبح تصحيح الأقوال وتأصيلها أسهل مما كان فليس من المقبول مثلا أن نعتمد قضايا أو جزئيات مؤسسة على أحاديث منسوبة في سندها لإحياء علوم الدين للغزالي رحمه الله تعالى مثلا كما درج عليه البعض . قد يكون لبعض السلف وخاصة في هذا الصقع النائي عذرهم في ذلك لصعوبة التأكد من مستوى الحديث ولكن لم يعد ذلك العذر مقبولا
كما أنه ليس من المناسب أن نعتمد بشكل مطلق اجتهادا مرحليا محفوفا ببيئة معينة وسياق معين فنجعله قولا مبينا لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وبين مغالاة الأول في دعواه تجاوز الفقه مطلقا انطلاقا من فهم غير سليم وما يشبه تكلفا من بعض الفقهاء في الابتعاد عن الأصل يتطلب الأمر نظرة وسطية ترسي ما بناه الأولون وتنقح ما قد يكون لحق به .. وحينها لن يصبح السجال بين الفقهاء والأصوليين أقرب للخصومة والخلاف