ظهر عبد القادر مساهل، وزير الخارجية الجزائري، مرتبكا داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثانية والسبعين، وهو يدافع عن استقرار كافة الدول ووحدتها مستثنيا المغرب وحده داخل خارطة العالم، الشيء الذي يؤشر على أن الجزائر لم تعد تعرف كيف ستدافع عن البوليساريو، ولا كيف تُعيد الترويج للإرث الوحيد الذي ورثته من شراكتها مع معمر القذافي والمتمثل في أطروحة الاستفتاء كورقة وحيدة ظلت ترددها طيلة السنوات الماضية.
البوليساريو والجزائر تتابعان اليوم بنوع من الذهول الحملة الدولية الرافضة لاستفتاء كردستان في العراق وكاطالونيا في إسبانيا، الجارة الشمالية للمغرب، والصدفة الدولية التي جمعت بين دولتين مختلفتين جعلت الدول الكبرى تبتعد عن سياسة الكيل بمكيالين في موضوع الاستفتاء، إلى درجة باتت معها العديد من المرافعات داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة تعيد التمسك بالسيادة والوحدة الوطنية للدول أمام مخاطر عدم الاستقرار.
وسيكون من الصعب اليوم على البوليساريو والجزائر الاستمرار في الضغط على المغرب بآلية تقرير المصير المقرون بالاستفتاء بعد كل هذه التطورات التي بدأها الأمين الأممي الجديد، لما أوضح في تقريره السنوي حول ملف الصحراء، في أبريل الماضي، ما يفيد بأن تقرير المصير بمعناه الكلاسيكي بات مرفوضا
شل أطروحة رمضان ونسرين لعمامرة: التوطين في المنطقة العازلة
ويبدو أن محيط بوتفليقة انتبه مبكرا إلى بداية تهاوي أسطورة البوليساريو، لذلك بادر إلى إنهاء قيادة رمضان لعمامرة للدبلوماسية الجزائرية، وهو الذي كان يطمح إلى أن يكون خليفة الرئيس بوتفليقة، فتغيير لعمامرة كان تعبيرا واضحا عن فشل أخطر مناورة جزائرية كانت تسعى إلى توطين جزء من الصحراويين في المنطقة العازلة بين المغرب وموريتانيا.
وهو السيناريو الذي أعده لعمامرة بدعم من حكومة جنوب إفريقيا وبإخراج إعلامي وتواصلي أشرفت عليه نسرين لعمامرة، مستشارة الأمن العسكري الجزائري، ابنة وزير الخارجية السابق، التي هندست صورة زعيم البوليساريو إبراهيم غالي، وهو يصل الشواطئ الأطلسية بترخيص من السلطات الموريتانية، فالأمر كان يتعلق بمحاولة إعمار وتوطين في المنطقة العازلة، ومن تم تجديد إعلان عن ميلاد جديد لـ"دولة" وهمية من فوق المنطقة العازلة.
محنة الاستفتاء قد ترمي الصحراويين لموريتانيا
وبانفراد عبد القادر مساهل والبشير طرطاق بقيادة السياسة الخارجية، تبدأ الجزائر لعبة جديدة ستكون ضحيتها موريتانيا هذه المرة؛ ذلك أن الجزائر بدأت تستثمر في أزمة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز، الساعي إلى ولاية دستورية ثالثة، فبعد أن تخلصت المخابرات العسكرية الجزائرية من الرئيس الموريتاني السابق ولد محمد فال، المعارض لتقارب ولد عبد العزيز مع الجزائر، والذي تكشف بعض المعلومات الأمنية عن قتله داخل منطقة تيرس زمور شمال موريتانيا عن طريق حقنه بمادة سامة من لدن أفراد المخابرات العسكرية الجزائرية وميليشيات البوليساريو المتسربة لهذه المنطقة.
بذلك تنتقل الجزائر اليوم إلى إيهام السلطات الموريتانية بانفتاح اقتصادي عبر مد طريق من تندوف إلى بلدة شوم في الشمال الشرقي لموريتانيا؛ فالجزائر الدولة تقطع هذا الخريف أحد أطول أزماتها المالية، والتي تشير التقارير الاقتصادية والمالية الدولية إلى أنها لن تتمكن من استرجاع التوازن المالي على الأقل خلال الخمس عشرة سنة المقبلة، تتجه وسط السنوات العجاف للتفكير في موريتانيا، بالرغم من أنها ظلت تغلق الأبواب الاقتصادية أمامها طيلة سنوات الرفاه النفطي الجزائري.
لكن الحسابات الاستراتيجية الجديدة تشير إلى أن الجزائر تسعى إلى دور جيواستراتيجي جديد في مرحلة ما بعد بوتفليقة، فمحيط بوتفليقة لا يرغب للرئيس المريض في "مغادرة دستورية طوعية"، وإن كان يرتب لخلافته مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي تُعطي مقابل ذلك دورا للجزائر في منطقة الساحل والصحراء لتكسير قوات مجموعة الخمسة (موريتانيا، مالي، بوركينافاصو، النيجر، تشاد) التي تديرها وتمولها فرنسا.
لذلك يفهم الجزائريون أن التوازن الجديد سيكون عبر الضغط على النظام الموريتاني ليلعب كل الأوراق ضد المغرب، من ورقة إصدار أحكام على المعارضة الموريتانية وتوجيه الاتهام إلى محمد ولد بوعماتو، المقيم في المغرب، والاستعداد للمطالبة الرسمية بتسليمه، إلى التلويح بلعب ورقة مشروع أخطر يتمثل في الحدود الموروثة عن الاستعمار،.
هي فتوى جزائرية بامتياز، لكن الموريتانيين لا يدركون أن مناورة طريق تندوف- شوم، بلدة شوم هذه التي توجد في محيط مفتوح تتجمع فيه كل الأخطار، يقوم من خلاله الجزائريون ببيع وهم للموريتانيين ينبني على مقولة "أن الجزائر تربط الجسور بعمقها الإفريقي الإستراتيجي"، وهو شيء لا يصدقه عاقل لطول المسافة بين شمال موريتانيا وشمال الجزائر..
لذلك، يبدو أن المشروع الذي تخفيه الجزائر وراء هذا الطريق المتجه نحو الشمال الشرقي الموريتاني مشروع مزدوج؛ يتمثل أولا في تقييد جيو استراتيجي للدولة الموريتانية بالوصول إلى منطقة مفترق طرق مفتوح على الزويرات ونواديبو يساعد الجزائر على خنق موريتانيا متى حاولت الهروب من الفخ الجزائري.. ويتمثل ثانيا في توطين تدريجي لسكان مخيمات البوليساريو في أراضي الشمال الشرقي الموريتاني.
الأمر يتعلق في جزء منه بمشروع إقامة أبدية وإدماج للصحراويين في الدولة الموريتانية، اختارت له الجزائر اللحظة المناسبة التي يبدو فيها نظام ولد عبد العزيز في حاجة إلى دعم ديمغرافي لمواجهة الحركات الاثنية المتصاعدة في بلده ودعم سياسي بمجموعة أصوات انتخابية، داخل مشاركة موريتانية ضعيفة جدا، أصوات لتدعيم تعديله الدستوري المقبل الممهد لولاية رئاسية ثالثة، لكن جزءا من محيط الرئيس الموريتاني بدأ يُدرك خطورة هذه المناورة الجزائرية خاصة الجنرال محمد ولد الغزواني، قائد الجيش الموريتاني، لذلك بدأت المخابرات الجزائرية تُروج لتقاعده المبكر خوفا من خلافته للرئيس في حالة دخول البلاد في أزمة سياسية برفض الولاية الثالثة لمحمد ولد عبد العزيز.
ويبدو أن قاعدة القيادات العسكرية الرافضة لتقارب ولد عبد العزيز مع الجزائر بدأت في التوسع نظرا لإدراكها خطورة المناورة الجزائرية المختفية وراء طريق تندوف نحو شمال موريتانيا، التي تهدف إلى تسهيل تسرب ساكنة المخيمات ومليشيات البوليساريو نحو الأراضي الموريتانية، وخلق منطقة مختلطة تُمسح فيها الحدود بين الجزائر وموريتانيا ليُحكم البوليساريو السيطرة عليها ويندفع نحو المناطق العازلة من فوق الأراضي الموريتانية؛ فالدولة الموريتانية في التقدير الأمني والإستراتيجي للمخابرات الجزائرية ضعيفة وليس لها القدرة على مراقبة حدودها، وباتت الفرصة مفتوحة للتخلص التدريجي من مخيمات تندوف بتوطينهم داخل الشمال الشرقي لموريتانيا..
إن الجيل الجديد في محيط بوتفليقة يشعر بأنه يرث ملفا صعبا فيه العديد من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في المخيمات من لدن جنرالات جزائريين ماتوا أو تقاعدوا، وأن زمن المحاسبة قادم لا محالة؛ فدعوات غوتيريس ومجلس الأمن بفتح المخيمات وإحصاء اللاجئين باتت تطارد السلطات الجزائرية..
وهذا ما يفسر الطريقة التي باتت بها المخابرات الجزائرية تطارد الصحراويين المقيمين في مخيمات تندوف فوق أراضيها وتعاملهم مثل المهاجرين غير الشرعيين؛ بل إن المخابرات الجزائرية باتت لا تعترف بالوثائق التي سلمتها لساكنة المخيمات، الشيء الذي يعني أن الجزائر شرعت في قتل "الجمهورية" الوهمية التي صنعتها وتتجه إلى دفنها فوق الأراضي الموريتانية، ولا أحد يعرف ما هو المولود، الذي سيكون داخل الأراضي الموريتانية، وهل ستستوعبه البطن الموريتانية؟
عبد الرحيم المنار اسليمي*
*المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني