شنقيط : الكتاب زينة الرجال/ سامي كليب
الجمعة, 02 مايو 2014 19:53

altأخيرا وصلنا...ابتسمت لنا مدينة شنقيط الموريتانية. هرول علي بجلبابه الأزرق ( الدراعة وفق الاسم المحلي ) . هرول نحونا ضاحكا رافعا يديه مرحباً . لفظت السيارة نفسها الاخير قبل ان تستلقي ،منهكة ،الى جانب الطريق . ترجلت مع صحبي قرب مكتبة آل حبوت.

 باب خشبي عتيق يختزل الزمن . عانقنا علي وصحبه طويلا فوق حرارة رمال كانت في بداية هبوطها في المساء الجميل . هنا المكتبات كالاولاد او أعز. هنا الكتاب رفيق اجيال أو أنيس ليالي او خليل القمر والنجوم . هنا الحياة بسيطة هانئة توحي كأنها خارجة لتوها من تاريخ نهضتنا قبل ان تصبح النهضة من التاريخ وتستمر فيه .

لم تكن الرحلة سهلة. ساعات ثلاث بالطائرة من باريس الى الدار البيضاء في المملكة المغربية. انتظار لساعات. رحلة ثانية من ألدار البيضاء الى نواكشوط لنحو ثلاث ساعات إضافية . لا شيء تغير في المطار الموريتاني الصغير. الفوضى نفسها والتسابق عينه والأسئلة ذاتها والمحبة كبيرة والترحيب اكبر . تدور الحقائب على السكة دورتين قبل ان تصل الحقيبة. يكاد شكل الحقيبة ولونها يضيعان بسبب الرمال وتساقط الحقائب على بعضها. يوحي المطار كأنه خارج لتوه من جور الزمن. لا باس فهنا الابتسامات تنسيك متاعب الرحلة وكلمات الترحيب تلطف الجو الحار ليلا .

الموريتانيون المحبون أصلا لكل عربي قادم اليهم يضاعفون الترحيب اذا كان القادم مذيعا تلفزيونيا معروفا عندهم ...لعلهم من اكثر لشعوب محبة للتلفزات. لعل التلفزات احتلت مكان الثقافة الشفهية الهائلة عندهم . هنا ان بلغ الصبي ولم يحفظ المعلقات الشعرية فهو مثار بخجل أهله . ها نحن اذا في مطار نواكشوط . يتهامس بعض المسافرين وهم ينظرون الى الزائر . يحييه آخرون .

تسترق بعض النساء النظرات من تحت حجابها الأفريقي المزركش . يتصل الحجاب بالملبس النسائي الزاهي الألوان . يعرف الملبوس النسائي هنا ب ( الملحفة ) تختزل عيون النساء تاريخا من الذكاء والانفتاح الاجتماعي الراقي . المراة محترمة اكثر من اي دولة عربية . لو أهانتها الرجل إنما يهين قبيلته . لو تطلقت زادت حظوظها بالزواج ثانية. لها شعرها الغزلي الخاص المسمى "تبرع " . يقترب اخرون للمصافحة . يعرض البعض منهم المساعدة في حمل الحقيبة . هكذا دفعة واحدة تفتح موريتانيا مطارها وقلوب ابنائها الطيبين للزائر العربي .

في نواكشوط تمر الليلة سريعة. يقطعها من وقت لآخر صوت موج البحر او رغاء جمل . يبزغ الفجر مؤاخيا ترجيع الآذان. يسارع السائق محمد لإلقاء التحية بلكنته الافريقية المحببة . هو من دولة مالي المجاورة . كان يعمل في تهريب الدخان عبر الحدود . ما عاد يعمل منذ ارتفع دخان المعارك ضد الارهاب في بلاده. كيف للذي يسمع صوت القرآن الكريم فجرا ان يصبح باسم القرآن والاسلام إرهابيا ؟ كيف للذي يبسمل ويحمدل فوق سجادة الصلاة واتجاهه صوب الكعبة الشريفة ان يبسمل ويحمدل وهو يذبح من يبسمل ويحمدل ؟لا بد ان هذه الامة تعيش أسوأ انفصام في تاريخها.

استقر محمد في نواكشوط للعمل سائقا عبر الصحاري. تعرفت اليه قبل خمس سنوات . لا يزال كمعظم اهل الصحراء يمارس إسلامه السمح المنفتح . انها الخامسة صباحا. الضوء يملا المكان قبل طلوع الشمس. تصحو البيوت المفترشة الرمال . تتثاقل في استيقاظها. هنا لا يزال الوقت بخدمة الانسان وليس العكس .

الرحلة طويلة وشاقة رغم سحر الصحراء. تعبر بنا السيارة طرقا ملتوية وكثبانا . تلتف حول شجيرات إبرية الورق. تركض قطعان الجمال وبعض الماعز خوفا أمامنا . لم تعتد الحيوانات على الغرباء بقوافلهم الحديدية.

يتفنن محمد بمراقصة السيارة فوق الرمال. الخط المستقيم لا ينفع لسير السيارات رباعية الدفع. لا بد للسيارة من ان تتلوى كالافعى بين الكثبان كي لا تغرق عجلاتها بالرمال. يرتفع غبار الرمال صوبنا. تعلو السيارة وتهبط . تميل يميناً ويسارا . يكاد الغبار يحجب الرؤية . ينقر محمد على مرشة الماء. ثم ينقر على سيجارته ويسحب نفسا وينظر صوبي مطمئنا واثقا مما يفعل. أنا أيضاً بدأت اثق بقدرته الهائلة على القيادة. اخ ... ارتفعت السيارة وهبطت فجأة. ارتفعت اكثر من لازم وارتطمت بالأرض . لم ينتبه لحدب صغير. كدت اسحب ثقتي منه. ضحكنا وأكملنا الطريق. لا يتوقف محمد عن الكلام الا حين يمج سيجارته. لو توقف فمرافقنا الجالس خلفنا يتولى الباقي . المرافق الثاني يتحفنا بشخيره طيلة الطريق . يعلو الشخير ويهبط متناغما مع حركة السيارة. يصرخ به محمد فيهب مذعورا نضحك . لكنه يعود الى النوم والى الشخير. نرفع صوت المسجلة. صوت الفنانة الرائعة والسياسية القديرة المعلومة بنت الميداح يضفي على الرحلة جمالا استثنائيا .

يرش محمد الماء فتنقشع الرؤية بمساحة نصف دائرية فقط . لا باس هو معتاد على جور الطبيعة ونحن نكتشف جمال قسوتها . قسوة الجمال في بعض المناسبات تبدو اكثر جذبا من رقته. يتبع محمد بدقة خط سير السيارات ألتي سبقتنا. اي انحراف عن الطريق المرسومة بالعجلات قد يوقف سيرنا. اعتاد الشاب المالي النحيل على الرحلات الصحراوية الشاقة. يقود لمسافات طويلة بيد واحدة بينما يده الاخرى تبحث في " دراعته" الزرقاء ( بالأحرى التي كانت زرقاء قبل الغبار ) عن علبة الدخان. يقترح ان نتوقف قليلا. نترجل قرب حانوت صغير . يرحب بنا من فيه. يفترشون الرمال امام موقدة من حجارة وجمر. يغلي فوقها إبريق الشاي ( او الاتاي كما يسمى هنا ) يرتفع الإبريق عاليا لينسكب شايا اشقر اللون في القدح الصغير. ثم يرتد الى الإبريق ثم يعود ثانية وثالثة الى القدح. تتكرر الحركة الضاربة جذورها في التاريخ الصحراوي. تتكرر حتى تتكون فوق الشاي رغوة بيضاء . يقال ان في الحركة أيضاً ما يجعل الاتاي اكثر لذة لان الاوكسيجين يداخله في نزوله الى القدح. للشاي هنا طقوس في الضيافة وإشارات اجتماعية هامة لا بد للزائر من ان يعرفها ليفهمها . ياخذ محمد ومرافقانا كل وقتهم في شرب الاتاي . هذه لحظات فيها من متعة المشروب بقدر ما تختزل تاريخا من العادات الاجتماعية الجميلة . لا باس ان مر الوقت فالشاي اهم منه . يرفض صاحب الحانوت أخذ ثمنه. يعيب علينا اننا عرضنا. هنا الفقر والكرامة صنوان. هنا الضيافة اهم من الفقر. هنا العادات أرسخ و اكثر قيمة من المال.هنا الانسان لا يزال يستحق هذا الاسم . لم يخربه المجتمع.  يقترح محمد ان اشاركه متعة التدخين. أقمعه. يضحك الصبية بملابسهم الممزقة وأقدامهم الحافية. تبرز الاسنان خلف الابتسامات اكثر نصاعا. يستخدم اهالي الصحراء قطعة صغيرة من أغصان أشجار الأراك لتنظيف أسنانهم. اسمها السواك. لعلها اكثر فعالية من المعجون الذي نستخدمه يوميا. او لعل السمرة الزائدة لأبناء الصحراء تجعل الاسنان اكثر بياضا.  نشكر صاحب الحانوت وأهله ونكمل صوب شنقيط. يستمر محمد في التدخين واستمر بردعه. لا يأبه. يعرف أني لن امنعه من هذه المتعة القاتلة . ليته يرتدع

اخيراً وصلنا ... عبرنا الطرقات الرملية القاسية واجتزنا طرقات اسفلتية محفورة في الصخر . تكاد الجبال المحيطة بالطريق وذات الطبقات الصخرية لمتعددة الألوان تنذر باحتمال سقوطها في اي لحظة. لحسن الحظ انها لا تسقط. فقط بعض الانهيارات على جوانب الطرقات تتم معالجتها .

اخيراً ها هي شنقيط . تطل أحياؤها الاولى بخجل من خلف الرمال. تذكرني بخجل عيون الموريتانيات تحت الحجاب في المطار . تبدو البيوت كأنها تسترق النظر الى زوار المساء. يركض الصبية نحونا. يقف الشبان واحد مسؤولي المنطقة الى جانب علي . يلوحون لنا مرحبين . نترجل . نعانق الجميع. الموريتاني يضع الوجه على الوجه ولا يقبل على الوجنتين . او يدني رأسه صوب كتف الزائر. نسير جميعا صوب الخيمة. تشمخ أشجار النخيل فوق الرمال التي تعاركها منذ قرون وتنتصر. تتقدم الرمال الحمراء صوب البيوت فتكاد تغرقها.تغرق البيوت ثم تقوم. لا بد ان تقوم

شنقيط ليست مدينة عابرة . ابنة الاسلام والعروبة والتراث الحياني العريق تحتضن فوق رمالها أشهر المخطوطات الاسلامية والعربية العريقة. تحفظ شنقيط بأهداب العيون اعرق الكتب . شنقيط تحفظ بحلاوة الروح حبراً لا يزال مكتوبا بأيادي علماء عبروا وبقيت علومهم صامدة شامخة . لم يحفظ تراثها سوى أهلها . لو طلبت من شنقيطي ان يبيعك كتابا فكأنك تهينه. لو طلبت منه ان يعطيك بيته او خيمته سيفعل لكن ليس الكتاب . هنا تفاخر العائلات بمكتباتها. هنا الكتب زينة الرجال. هنا جزء كبير من تاريخ العرب والاسلام. كتب مكدسة فوق رفوف خشبية عتيقة مترنحة. ابواب صغيرة لمكتبات عريقة. ينحني الزائر لدخولها فيفهم ان الامر مقصود لان في المكتبات ما يستحق الانحناء احتراما.

تفترش شنقيط الرمال وتلتحف السماء والنجوم وضوء القمر. تحتضن بين حنايا كثبانها وبحنو كبير، جزءا من تاريخنا العربي الاسلامي وأشعة من نور . في شنقيط يمضي الزمن بطيئاً فلا ينتبه أهلها الى الزمن . تغزو بعض الحشرات والنمل والرطوبة بعض الكتب فتنهش لحمها وحبرها.  يضيء أهل شنقيط مصابيح الزيت فتزهو ملاحف النساء المزركشة ودراعات الرجال الزرقاء والبيضاء . يعلو صوت الغناء والعزف على آلة تيدنيت التي تشبه العود بأوتارها الأربعة فتزهر الرمال . يضفي ضوء القمر سحرا على المكان . تلمع النجوم قريبة كأنها تريد ملامسة الساهرين . توقد النار امام الخيمة . تتعدد أباريق الشاي . ينزل التمر ولحم الضان وما تيسر على الارض. تفرح المدينة بزوارها. يفرح الزائر بكل هذا المشهد الخيالي .

تنتهي السهرة قبيل الفجر. أعود الى خيمتي وفي قلبي فرح وحزن. أليس ثمن دبابة واحدة من تلك التي تصدأ في مستودعاتنا لإنعاش الاقتصاد ألغربي ومصانع السلاح والقتل ، كفيلا بإنقاذ تاريخ اسلامي وعربي هائل من موت محتم ؟. هل في زمن الجهل واقتتال المذاهب والقبائل والطوائف على مزابل الحاضر من ما زال يسال عن كتب يحتضر هنا او مخطوطة تئن هناك

قتلنا تاريخنا فلماذا نلام ان شرعنا حاضرنا للمجهول؟

يرتفع صوت الآذان .....