مواطنون بلا آباء
الأحد, 01 ديسمبر 2013 11:13

إذا كان لديك جواز سفر جديد فاعلم ـ لا أبا لك ـ أن لا أبا لك!! إذا لم تصدق ذلك فانظر بيانات جواز سفرك وابحث فيها عن اسم والدك، فلن تجد له ذكرا، كما لن تجد ذكرا لوظيفتك الهامة!!تقوم الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة بدور هام وضروري في تنظيم الحالة المدنية وتوحيد إجراءاتها وأشكالها، وإصدار وثائقها المؤمنة على

أساس رقم وطني فريد لكل مواطن، وحفظ وإدارة أرشيف سجل مدني موحد للنفوس. إنه إنجاز وطني كبيروضروري طالما دعت الحاجة إليه. لا شك في ذلك. أما الشك فهو في التفاصيل وتحديد الحدود لما يدخل في ذلك وما لا يدخل فيه، وما هو الثمن الذي لا بد منه، والثمن الذي منه بد... وهل يُصان هذا العمل الجليل في حدوده الإدارية والتقنية المحضة عطاءً محمودا للدولة، أم "يُستثمر" في وجوه أخرى آنية ومناقِضة؛ مثل السياسة والمال والنفوذ؟!

 

يكثر اللغط حول الحالة المدنية، والمشاكل والأخطاء والعقبات التي خلقتها الوكالة، والتي لا تكتفي بإرهاق المواطنين بدفع رسوم باهظة متكررة، وإنما ترهقهم أيضا بأسباب وشروط المراجعات والانتظار الطويل...

 

وفي تبريرها لهذه التعقيدات تُكرر الوكالة نفس المسوغات وهي أهمية ودقة النظام التقني الجديد "البيومتري". ولا تفتأ الحكومة تزكي هذه الوكالة وتبارك نهجها، بمبررات أوهى وأكثر تهافتا، مثل القول إن البلد لم يكن يملك حالة مدنية وإن سجلاته ووثائقه كانت لعبة في أيدي المزورين والمتسللين. وفي نظر السلطة بأعلى هرمها أن هذا كاف لتبرير تقصير وأخطاء الوكالة، وتسويغ الجباية الهائلة التي تفرضها على المواطنين الفقراء!.

 

بالنسبة لكاتب هذه السطور، فتلك في مجملها أمور ثانوية بل لبعضها مبررات وجيهة. لكن الوكالة بنظامها الارتجالي قد تجاوزت الحدود الإدارية التقنية، والمتطلبات الأمنية، ورتعت في غير حماها!.

 

فالنظام الجديد للحالة المدنية يحاول ـ دون مبرر ـ تغيير بنية اجتماعية وثقافية تقليدية قام عليها هذا المجتمع منذ عشرات القرون، وذلك بمجرد اجتهادات شخصية بدأها ولد الطائع في بطاقة التعريف اللطيفة التي أصدرها في التسعينيات (وكانت ـ على الأقل ـ مجانية وأنيقة بالألوان الوطنية)، ثم بالغ فيها النظام الحالي لدرجة قلَبت الأمور رأسا على عقب وخلقت فوضى وبلبلة في وثائق المواطنين ما زالت تبعاتها ومآسيها ترمي بشررها في الداخل والخارج.

 

بدعة "الاسم العائلي"

في بداية سنوات استقلال موريتانيا وامتلاكها إدارة سجلاتها، شاور الرئيس المؤسس الأستاذ المختار ولد داداه ـ كعادته ـ بعض ذوي الثقافة والرأي حول الصيغة الإدارية التي يجب أن تسجل بها النفوس في الوثائق الرسمية.

 

كانت بعض الآراء تميل إلى تطبيق الأسلوب العربي التقليدي المتبع علميا ـ لا عمليا ـ لدى الشريحة العربية المتعلمة، وهو إثبات أداة النسبة الفصيحة مثل (بنت، ابن ، أبناء...). بينما اقترح بعض المتحمسين من المثقفين نفس الأسلوب المتبع في معظم الدول العربية، وهو حذف تلك الأداة كلية وتدوين اسم الولَد متبوعا باسم أبيه مباشرة. أما رأي الأكثرية فكان إبقاء الأسلوب العامي المتداول (ولد، منت، أولاد...)، والذي كانت الإدارة الاستعمارية آخذة به.

 

وقد أيد المرحوم المختار هذا الأسلوب بأمر آخر أهم من مسألة "الحرج الاستعماري" ـ إن كان هناك من يعتبره ـ وهو أن كلمتي: "ولد" و"منت"، فضلا عن فصاحتهما العربية أو قربهما من ذلك، من المميزات الفريدة لغالبية المجتمع الموريتاني (كافة فئات البظان)، وعليهما البناء الاجتماعي والأدبي لخطاب اللهجة الحسانية عموما منذ نشأتها. وبالتالي فهذا موروث مشترك لا إشكال فيه، بل يكرس اليوم الشعور بالأصالة والمساواة لدى معظم الموريتانيين.

 

لكن أيا من الذين ناقشوا هذا الموضوع يومها لم يتطرقوا إلى مسألة "الاسم العائلي". لما ذا؟ لأن هذا النمط من التعريف، المعمول به في المجتمعات الغربية وبعض البلاد العربية، يبدو غريبا على المجتمع الموريتاني غير معمول به البتة، رغم قوة آصرة الأسرة وسيادة العصبية القبلية.

 

وبما أن الأسماء والأنساب والتعاريف كلها أمور عرفية سائدة في كل مجتمع حسب تراكمات تاريخه وخصائصه الاجتماعية والثقافية، فإن تغييرها ليس من وظيفة أية إدارة ولا صلاحية أي سلطة؛ ناهيك عن كون تغييرها لا يخدم الهدف الأساسي لدواوين النفوس وهو تعريف الأشخاص وتمييزهم بدقة ووضوح.

 

إذن من الذي قرر فجأة أن يغير بالقوة الإدارية صيغة التعريف الشخصي المتبعة في هذا المجتمع، ويجعل من سجلات قيود أبنائه لعبة هواه، لمجرد تقليد الآخرين أو تلبية لهواية شخصية؛ وليحفر هوة أخرى بين مجتمع متمسك بأساليبه المشروعة، وإدارة تصر على اتباع أسلوب شاذ دون أي مبرر أو فائدة؟ وكيف مرَّ هذا "الانقلاب المدني" بصمت ولا مبالاة، بل بخضوع وخنوع... تماما كما تمر بنا الانقلابات العسكرية التي تعده هذا من إنجازاتها الفريدة؟!

 

بدأت القصة في عهد ولد الطائع كقرار "سيادي" من قراراته الخارجة عن حدود التوقع. واكتفى الإعلام الرسمي بنقاش جزئي وسطحي حول الموضوع بين ثلة المروجين لرغبات الحاكم. وكان الهدف الأساسي على ما يبدو هو حذف عبارة "ولد" أو"منت" ولكن مع بقاء اسم الأب. وأصبح "الاسم العائلي" خانة ثابتة ولكنها غير مهمة تملأ بأي اسم أو لقب لأحد الجدود.

 

أما في العهد الجديد الذي تتحكم فيه وكالة س س و م فقد أصبح الاسم العائلي حجر الزاوية في الوثيقة المدنية، بينما لم يعد لاسم الأب أهمية فحذف كلية من جوازات السفر الجديدة مثلا! أي كأنك ـ أيها الموريتاني ـ مواطن إنجليزي من مقاطعة ويلز!!

 

لا أشك في أن مدير الوكالة الوطنية للسجل السكاني والوثائق المؤمنة، أو بالأحرى فخامة رئيس الدولة، سيقول إن الاسم العائلي ضروري لتامين الوثائق وعدم تزويرها!

 

ولكن هذا ببساطة مجاف للحقيقة، لأن "التأمين" مسألة تقنية بالدرجة الأولى. وإذا تجاوزنا المسألة التقنية فإن الاستزادة من التأمين ودقة التشخيص... إنما تأتي من أشياء أخرى مثل إثبات اسم القبيلة أو الجهة أو حتى "العلامات المميزة"، على حد تعبير بطاقة التعريف القديمة "الصفراء".

 

أما "الاسم العائلي" فهو في نظر العموم مبهم وغريب، ومن ثم أو قع الناس في مشاكل وعقبات هم في غنى عنها، فضلا عن كونه بالطبع لن يحقق هدف التعريف الأساسي؛ لأن المجتمع الموريتاني ـ كما هو معروف ـ يتبع نمطا خاصا في التسمية يتميز بالتركيب والتعدد في اسم الشخص الواحد، وهي حقيقة يتجاهلها بكثير من عدم المسئولية من قرروا التركيز على الاسم العائلي رغم ذلك!.

 

والنتيجة حتى الآن سيئة جدا. على المستوى الداخلي: تجد الإخوة الأشقاء ينتمي كل منهم إلى اسم عائلي مختلف عن اسم شقيقه بسبب عدم وجود قاعدة لتحديد الجد الذي يحمل الاسم العائلي؛ هل هو الجد الأول أو الثاني أو الثالث... والأهم من ذلك أنه لو تم تحديد هذا الجد سيبقى الاختلاف قائما بين أسماء المنتمين لنفس الجد بسبب اختلاف أسمائه وألقابه المتعددة! وهناك من لا يعرفون كيف ينتسبون لغير والديهم المباشرين، فيقترح عليهم الموظفون المرهقون في مكاتب التسجيل أي اسم، تماما كما يخترعون لهم تاريخ الميلاد باليوم والشهر من خيالهم الكليل!.

 

وللإصرار على تحديد التاريخ باليوم والشهر للجميع قصة لا تقل سخافة ولا ارتجالا، حتى أوقعت دولتنا في فضيحة مدوية يتندر بها رعاع العالم. وهي أن جميع سكان موريتانيا مولودون في يوم واحد هو اليوم الأخير من شهر كانون الثاني (ديسمبر)!!.

 

والحقيقة أن هذا "التطوير" المرتجل قد أوقع الجميع تقريبا في ورطة إدارية ومأزق قانوني؛ من أمثلته اليومية: أن آلافا من المواطنين يحملون الآن وثائق جديدة "مؤمنة" تختلف وتتناقض أحيانا مع هوياتهم الأصلية المسجلة (في الداخل وفي الخارج) وشهاداتهم التعليمية وعقود عملهم وعقود أملاكهم الخ... التي اكتسبوها طوال حياتهم. وكل ذلك بدون سبب ولا طائل؛ فلا إصدار الرقم الوطني، ولا تأمين الوثائق، ولا حتى "بيعها" بأثمان مجحفة للمواطنين كافة... له علاقة مؤثرة بشكلِ أو طبيعة الأسماء والأنساب.

 

ومن هنا تكثر التساؤلات عن الدافع لهذا الابتكار السيئ؛ وإذا كان تقنيا صرفا هل يتعلق بمشكلة في البرنامج (Software)، أم بالأجهزة، أم بتفكير قادة إدارتنا فحسب؟!. والاحتمال الأخير راجح، لأن وكالة السجل السكاني تجبي من الأموال ما يكفي لشراء البرامج والأجهزة المصممة على نوعية وخصائص حاجاتها... إن لم تكن مثل هيئات ومؤسسات كثيرة في الدولة الموريتانية تفضل البرامج "المقرصنة" التي تباع بأقل من 0.1% من أثمانها الأصلية التي قد تظهر في الفواتير...!

 

دولة فوق الدولة!

من طرائف، أو جرائر، "تقليد" الاسم العائلي ما سمعته على لسان مواطن يعاني في أحد مراكز الحالة المدنية. قال إن هناك دوافع "عنصرية" وراء اعتماد الاسم العائلي! قلت: كيف يصح ذلك؟ قال: بما أن في المجتمع طبقة ترى لنفسها التفوق العرقي، وتخشى أفول "سيادتها" على طبقات تراها "وضيعة" النسب، فإنها تريد من خلال إبراز الاسم العائلي تخليد أمجادها الغابرة، وتذكير المجتمع بفوارق الحسب والنسب بين فئاته... ولا يزال العهد قريبا لتذكر ذلك!!.

 

مع غرابة وشناعة هذا التحليل الخاطئ حتما فإنه يبقى سيئة أخرى لهذا التعدي المفاجئ على بيانات الحالة المدنية، ولو من باب "فتح الذرائع"؛ خلافا لمقتضيات "سد الذرائع" الذي هو أحد مصادر فقهنا المالكي.

 

مواطن آخر أبرز جواز سفره الجديد وقال للجمهور: لم أجد اسم أبي ولا أمي في هذا الجواز، وهذا مخالف لقوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم)!

 

مع ذلك، وربما لصلة به، يبدو أن صلاحيات الوكالة الوطنية للسجل السكاني والوثائق المؤمنة لا تقتصر على هذه "الاجتهادات" الغريبة، بل لها من السلطة والقوة القانونية ما "ينسخ" كافة القوانين والسلط التنظيمية. فهي تصدر أوامر إلى دوائر التنفيذ، وأعوان الدولة، وحتى المؤسسات الخاصة... بإبطال مفعول الوثائق الحالية الصادرة قبل وجودها ـ مع أنها ما تزال سارية المفعول ـ واعتبارها لاغية، دون أن توفر لأصحابها بدائل عنها، مما سبب الكثير من المحن والمعاناة لآلاف المواطنين في الداخل، ولاسيما في الخارج!

 

وأخيرا قيل إن منح التأشيرات لدخول الأجانب إلى البلاد ـ وهو ذروة سيادة وأمن الدولة ـ سيصبح من اختصاص هذه الوكالة؛ على الأقل من ناحيته المالية، وإنها ستوفد السعاة إلى الثغور، وترسل بعثات دبلوماسية تكون لها اليد الطولى في سفارات الدولة وقنصلياتها في الخارج. ومن ثم لا غرابة في أن ترتفع أسعار التأشيرة والإقامة وتصبح خاضعة لنواميس "البسنيس" قبل متطلبات تحسين صورة الجمهورية، ووقايتها، وتشجيع السياحة الاقتصادية ذات النفع العام.

 

م. محفوظ ولد أحمد