سفينة الشارقة إذ تجري في بحر الثقافة/ مختار بابتح
السبت, 30 نوفمبر 2013 12:35

أجيبكم بنفسي عن نفسي  ـ أيها السائلون عني حيارى  ـ أجيبكم وأنا الذي أملك الشجاعة الكاملة على الحديث عن شخصيتي، وليست لدي غضاضة في مصارحتكم بحقائقي المرة فأنا الأمي المتفاخر بأميته بين أمم الدنيا، أنا ذلك العربي المتخلف السائر حيث تسير العيس

العطشى يوم السقاية إلى الآبار، أنا ذلك الصعلوك العالق في كهوف تمتد من الأطلسي غربا إلى الخليج شرقا، أنا المنتسب لأمة غائبة متخلفة وإن بدا بعضها ينافس أمم العالم الصاعدة، أنا المصارع للحياة من أجل الحياة والحياة فقط، أنا البدوي التائه في صحراء معتمة إذ الليل المدلهم سابحا في الدياجي وقد غارت النجوم وهدأت العيون ولم يبق أمامي إلا النوم، أجل حق لي أن أنام وأنا المهموم من رأسه إلى أخمص قدميه ولو هنيهة أخفف من أوجاعي علّي أتمتع ولو برؤيا سارة .. هيا إلى النوم في صحرائنا المعتمة.

شاءت المقادير أن أرى فيما يرى النائم أنني أحد ركاب سفينة عملاقة شراعها يبدو للناظر من مئات الأميال، وأسير في رحلة عبر بحر تتلاطم أمواجه الزرق ثقافة وحضارة وتترسب في أعماقه لآلئُ نفيسة يطلبها بني آدم في شرق الأرض وغربها، وقفنا حيث ترسٌّ سفينة الشارقة العملاقة ننتظر انطلاقة الرحلة نحو القاع، كان الموج الأزرق يتكسر على الشاطئ الرملي فيترك زبدا على شكل حروف صقال من المعرفة الخالدة، نسائم البحر تهب عبقا من الحبر السيال و عبيرا يحمل رائحة جلود سطّر عليها المؤرخون عصارة أفكارهم وتجاربهم الإنسانية، في ذلك الهواء الطلق أخذت العيون تنظر نحو القاع "الآن أزفت  ساعة الانطلاقة نحو بحر الثقافة المتلاطم" قال الربان وقد اشرأبت إليه أعناق الرجال.

ركب القوم البحر وانطلقت بهم الفلك تجري حيث جرت الرياح بما يشتهيه الربان وجلس الجميع متأملين في زبد هذا اليمّ يقلبون أبصارهم ذات اليمين وذات الشمال فيرون الشمس تشرق على السفينة الشارقة فتطفو على السطح فتعكس أشعة من العلوم الدافئة، أبحرنا في هذا الزبد  وكان الربان يسلي الركاب بحديثه الشيق، و يحكي في "حديث ذاكرته" الممتع  قصة  البحر يوم خاض غماره لأول مرة قبل سنين عددا ثم واصل الإبحار والإبحار حتى أصبحت السفينة تعهد هذا الطريف بنفسها.

وفي محيط الثقافة عجائب لا يدركها إلا من ركبه وخاض غماره وجالس ربانه إذ يتحدث بذكرياته الجميلة، مالي أرى الحياة كأنها تبتسم وتنقلب من بؤس إلى سعادة في عرض البحر العجيب!! ارى النوارس البحرية تتلاعب مع الموج أرى الطيور بكل أشكالها تنزل على الموج فيصفعها ثم تطير وتعود إليه وتطير!! كان الموج يداعب أجسادنا بزخات من الندى البحري، مررنا حيث مر حوت ذي النون يونس وحيث نادى ربه في الظلمات، وحيث نجاه من هلاك محقق، كنا ننصت و نستمتع ونسمع قصص هذا البحر مع هذا النبي وقصص كل أنبياء الله الذين جاؤوا برسالتهم السماوية إلى هذا البشر.

 يوم كامل ونحن نناطح الموج ونتنازع القرب من الربان، وحديثه عن عجائب هذا البحر، ونمر بالجزر والصخور المائية تتراقص على وقع سير السفينة فيحدثنا الربان الخرّيت عن تفاصيل هذا الطريق الممتلئ بكل علوم الأرض،  مررنا بصخرة بحرية شامخة وحروف ليست من لغات البشر المعهودة فساءلنا الربان : ما هذه الخطوط المتعرجة في الصخور المائية فأجاب: تلك خطوط تعود إلى حضارة الإغريق وهذه الكلمات المكتوبة بخطوط عريضة ترجمها علماء الأثار بقولهم"يومئذ كنا هنا" أخذ الركاب يتأملون هذا التاريخ العريق ويدونون ويأخذون بعض الشظايا المتطايرة من هذا الصخر الجلمود.

أخذ القوم قسطا من الراحة في هواء البحر ثم واصلوا إبحارهم وقت الغروب الهادئ، الآن تبعث الشمس أشعة وردية هادئة، وتتراءى على مد البصر طريق ممدود يقول الدليل: في هذا البحر شقت عصا موسى البحر فانفلق نصفين إنها حضارة الفراعنة بأكملها توجد في عرض البحر وتحكي قرونا من الأهرامات الضاربة في عمق التاريخ.

وجن الليل على السفينة في موج أخذت ظلمته تتبدد في الأفق وصمت الركاب وهم ينظرون إلى كواكب درية تخترق الظلام الدامس، على مد الأفق في سماء صافية تقطعها مجرة التبانة، و مع صمت الليل الهادئ تحدث أحد الركاب  وقال هذا الليل البحري عاشه الشعراء العرب الجاهليون وتحدث عنه امرؤ القيس وتحدث إليه قائلا  :

"وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي

 فقلت له لما تمطى بصلبه

  وأردف أعجازا وناء بكلكل:

 ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل"

اما الربان فقد ذهب بهم إلى عصر آخر من عصور ليالي البحر إلى نغمات فيروز إذ تغني للشاعر جبران خليل جبران:

سكن الليل و في ثوب السكون تختبي الأحلام

وسع البدر و للبدر عيون ترصد الأيام

فتعالي يا إبنة الحقل نزور كرمة العشاق

علنا نطفي بذياك العصير حرقة الأشواق

 

وسارت السفينة حتى إذا ما وصلنا إلى حيوانات غريبة تتحدث بلغات أكثر غرابة أحسست في عيونها علاقة حميمية مع الإنسان كأنها رأت هذه السفينة من قبل، في رحلات سالفة، فقال الربان: هذا طريق بحري معروف سلكه بعض الرحالة الأوائل أمثال "ماجلان" في رحلته التي اكتشف بها كروية الأرض كما سلك نفس الطريق "كولومبوس" ورحلته الكونية التي اكتشف فيها بشرا وراء البحار وتطورت تجاربه حتى كانت تلك الأرض هي قبلة للبشر فحار القوم أجمعين وهم يدونون تجارب الرحالة الأوائل.

ثم واصلنا الإبحار حتى إذا ما بلغت السفينة مطلع الشمس حيث تبدو جزر القارة الهندية بكل كائناتها وحيث يعيش خلق الله بثقافات أخرى وحيث يتكاثر سكان الأرض وتتنافس أدمغة البشر في الإبداعات الجديدة، وفي جزر الهند يستقر قرص الشمس كل يوم ساعات ثم يشرق على بقية الكون مبشرا بسعادة سرمدية لكل عشاق الحياة. وتأخر الليل وهبت نسائم السحر مع غبش فجر كاذب يخترق الكون من الشرق البعيد.

يقول الربان غدا بحول الله ستنطلق بكم إلى مغرب الشمس وبقية مناكب الأرض، نغوص في هذا  اليم المترامي وقسما سوف نكشف لكم ـ يا عشاق البحر ـ كل علوم كوكبنا وأسراره، سوف نشفي غليلكم بمزيد مما وراء هذه الأمواج سوف أمتعكم بحديث من الذاكرة السالفة، وستتروّون  من معين الأرض الزلال، سوف نحكي لكم عن سر دفنه الأوائل، بل سنتشرف لكم ما يفكر فيه هذا البشر من اختراعات..

عفوا .. بُوم الصحراء يصوح فجأة ويقطع هذه الرؤيا ويوقظني من هذا السبات، وليته ما فعل حتى أتمتع بحديث الربان ورحلته الشيقة عبر بحر الثقافة، فهل أنام مرة أخرى حتى تكتمل الرحلة؟ أم أن قدري العودة إلى واقعي الذي ألفته صعلوكا بين هذه الكهوف؟

 

 

مختار بابتاح

Tel : 00222 37202985

E_mail: [email protected]