في موريتانيا حصلت جماعة غامضة على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة. وكان أوّل شيء فعلته هو أنْ اشترتَ إسلاماً سياسياً. فقد تشيّخَ زعيمُها الشابّْ ولبس المسوح وتزهّد ووزّع الأموال. وتمكّنت الجماعة من نصب أبراج مراقبة على المجتمع وتنظيم توبته ومسيراته ودهن لحيتِه. وسرعان ما أمّت هذه الجماعة، على غيظ الإسلامويين التقليديين، أكبر حركة شريعيّة في تاريخ البلاد، حركة النّصرة. وقد اعتقِدَ أنّ هذه الجماعة، الخارِجة زَعماً، على المجتمع السياسي ستكون أطهر منه وأقوم بسبب عدم نفعيتِها وإخلاصها وتفانيها. ولكن ما إنْ تقوّضت الجماعة حتّى نهضت بينها حربٌ أهليّة. فمحاميها الذهاني سرعان ما استغلّ كَرْبَ الشيخ المستور وانهيار حَوْلِه وقوّته فأتى في عنقه وطالب بوضع الأغلال في يديْه. أما المركّب الاقتصادي في الجماعة فقد نجا بنفسه، تاركاً الشيخ يواجه المسكنة وحده.
لطالما زعمت الحركات الماسونيّة أنّها ستنقِذُ العالم بمجرد كونها نُخبة وصفوة. ولطالما دُيِّنَت الماسونيّة بزعم الاصطفاء والترشيد الإلهي؛ وكان زعماؤها يسمعون أصوات الملائكة عندما يدخلون في خلوتِهم. في صميمها كانت هذه الحركات حركات انقلابيّة بلانكيّة: تعتقِد أنّ الفساد ناجم من نوعيّة ناسِ الحُكم، لا من بنيتِه. وأنّ الحلّ يكمن في "الجماعة". وفي جوهرِها كانت هذه الحركات أرستقراطيّة: معتقِدة أنّ الإنقاذ السياسي يأتي من تأمّر القيَم النبيلة كالشجاعة والإيثار والحِلم والأناة والصّبر. ومرّة أخرى كانت هذه القيّم مجسّدة ومُجغرَفة.
وما فتئت الأحداث تقتل هذا الحِصان. ولكنّه لا يموت. ففي كلّ مرّة يمتطيه جيل جديد من السُّذج. لقد زعمت الوهّابيّة أنّها ستنقِذُ الإسلام برجال آخر الزمن، القابضين على دينِهم بالشكيمة والعزيمة. ولكن العالم يشهد اليوم حرباً باردة بين الدّولتيْن الوهّابيتيْن الوحيدتيْن. وكان بنديكت أندرسون قد بيّن هيمنة الوطنيّة على الأيديولوجيا عندما تصارعت الدوّل الشيوعيّة فيما بينها: فيتنام ضدّ كمبوديا والصين ضدّ فيتنام والصين ضدّ الاتحاد السوفياتي.
وقد شهِدت الانتفاضة المصريّة انقساماً ما بين الرعيل الأعلى من الإخوان المسلمين: فقد انخذل صفوة الحركة ما بين "مصر القويّة" و"الحرية والعدالة". وشهدت النهضة في تونس عدّة انشقاقات أدّت في النهاية إلى قبولها دوراً هادئاً في النظام الحاكم. وشهدت أحزاب "العدالة والتنميّة" صراعات أهليّة وتحاربات على الزعامة. لقد تحوّلت الحرب الأهلية السورية من ثورة على النظام إلى تحاربات ما بين الجماعات الجهاديّة نفسها.
لا توجد جماعات مصطفاة. ومجال السياسي، كما عرِف ذلك شميدت، هو مجال التصارع، لا مجال الاصطفاء. فالسياسة، بما هي تعانق المسيرة الفرديّة بالشأن العام، هي مكمن الأنانيّة. ولطالما تمّ بيعُ السياسة على أنّها مجال الإيثار، لا المجد. ولكنّ تهافت هذا يتبيّن قُدماً فهؤلاء العظماء هم جنود طبقاتِهم وجماعاتِهم ومصالحهم. ولعلّ "الصالح العام" لم يكن يوماً مجرّداً بقدر ما كان ترجمة لصعودات طبقية وجماعيّة ومصلحية.
------------------
من صفحة الاستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك