دفع الوطن الثمن غاليا جراء أداء فريق من السياسيين، الراكبين للشأن العام أو المتطفلين عليه أحيانا، وقت كان ولد محم يافعا، كان "إسلاميا" بالمصطلح المدرسي المتخندق، سنوات قليلة، قبل نهاية السبعينات ومع مطلع الثمانينات.
وقبل نهاية سنة 1985 بدأ يلج بامتياز إلى ساحة المراجعة الفكرية والسلوكية، مابين اليسار والانفتاح على المجتمع والخارج.
لينتهي به المطاف في المغرب،بعد سنوات الدراسة في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، نال من خلالها أهم شهاداته، حيث لم يكمل الدراسة الثانوية وفق السلك النظامي، وإنما خاضها عبر المعهد السعودي حينها، ليتسنى له دخول المعهد العالي المذكور سابقا.
وابتعد شكليا أو فعليا، على رأي البعض، عن التنظيم السري الإسلامي وربما ظاهريا عن التيار الإسلامي بصورة أوسع.
اختزنت حياة سيدي محمد ولد محم الكثير من المصاعب، ككل الشباب الناشئ في عاصمة فاشلة، مثل انواكشوط، مختلطة الأهواء والمتاعب الجمة، لكنه استطاع النجو بصعوبة من مهالك الاستسلام، لتيار الحياة الجارف، رغم أنه بقي معه ما بقي من آثار اجتياز المنطقة الرمادية، التي غصت عليه بالتحديات والنزاعات النفسية والفكرية والمجتمعية !.
ثم خرج علينا سيدي محمد ولد محمد عبد الله ولد محم المحامي، في ثوب براجماتي لا يخلو من النظرة المتحفظة من النظام، رغم فبركته علاقة هشة مع ذلك النظام القائم يومها، تراوحت بين الجذب والشد.
فقد كان مسؤول حملة موازية في داخل البلاد، ضمن حملة رئاسيات سنة 2003، ولو بصفة غير رسمية، ثم وقف بوصفه محاميا ضد ذلك النظام الجمهوري الطائعي، اثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في نفس السنة، وقد أوقف لعدة ساعات، بعد مشاداة مع القاضي آنذاك، في سياق محاكمة صالح وجماعته بواد الناقة، ولم يكن الإيقاف سجنا وإنما لفترة وجيزة عند الدرك فحسب.
للتاريخ، هذا الرجلُ كريم بامتياز، ويصعب عليك أن تختلف معه في أمور المادة، لأنه يكره بطبعه الفضيحة في هذا الصدد، ويميل للسخاء، وإن كان لكل جواد كبوة.
لكنه بصراحة يتجاوز الحد في المدح، حين يقررُ- بوجه خاص دعم جهة خاصة سلطوية – يحرصُ على مصلحته عندها ويركز على تحالفه معها، فهو يبالغُ للوصول أو الخداع بالموالاة.
إنه يلعب سياسيا بامتياز أحيانا، دون تقيد على رأي البعض بالبعد القيمي التقليدي، في ضرورة الابتعاد مثلا عن الغلو، ولبس الحق الناصع بالباطل المكشوف،.
تصوره وأسلوبه هو حر فيه، لكني شخصيا أعيب عليه بعضه.
لأنه ليس من سمته الإسلامي، والذي عرف به في مرحلة شبابه النضالي الإسلامي، وليس من طبع أسرته العائلية، ولا من طبع الأسرة الواسعة، التي ينتمي إليها.
فقد تولى أحمد ولد سيدباب الوزارة عدة مرات، زمن المختار ولد داداه وفي عهد معاوية، ولم يبالغ في مدح النظام آنذاك، وتولى كذلك المرحوم الدي ولد سيد باب مهام متعددة وأكثر حساسية في المغرب، وكان وسطيا، وغيرهم من أبناء عمومة سيدي محمد ولد محم، تسيسوا موالاة ومعارضة، ومع ذلك ظلوا تقريبا في الخط المعتدل، ولو نسبيا.
صاحبنا تخطى خط برليف في دعمه للنظام، لأن كسب ولائه يتطلب ذلك، وهو ثمن باهظ لعمري، سجله التاريخ ضد وجه غال، ممتاز نسبيا وثقافيا، كان الأنسب له أحيانا، أن يتحاشى بعض صيغ التزكية والدفاع الزائد، غير المقنع، وإن كان هو أول العارفين بذلك، لكنه يعرف في المقابل احتقار بعض "اصنادره" للسياسيين المدنيين والمثقفين عموما.
أين الخط الإسلامي؟ أين الخوف من كتابة التاريخ وحساب الديان، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأين الأنفة باختصار ؟!.
قد يقتل الطمع كل هذا جزئيا أو كليا، وربما تقتله كراهية التهميش والحرص على المشاركة في المشهد السياسي، إن لم يكن الهدف تصدره لاحقا في وقت ما.
إنها مخاطر الاعتداد بالذات والطموح الزائد والنرجسية في أشد عنفوانها عند البعض...
ما زال الرجلُ يحتفظ بعلاقات مع بعض قيادات الفريق الإسلامي القديم. مثل بونا عمر لي وبوميه ولد أبياه، الذي كان يوما ما رئيسا للتنظيم الإسلامي السري، ولعدة سنوات، وهو الآن داخل الحزب الحاكم المتغلب، تحت رئاسة تلميذه السابق في الخندق القديم.
ومن خلال الأستاذ الكبير بوميه أو بطريقة أخرى، استطاع ولد محمد مثلا استقبال نفس الشخصيات، التي يستقبلها فريق تواصل علنيا أو سريا- وزبر الخارجية المغربي السابق وإطار آخر فلسطيني معروف- تمت هذه الاستقبالات خلال الأسبوع المنصرم.
هل لأن تواصل قبل تكريس النظام الحالي، عبر المشاركة في المهزلة الانتخابية البلدية البرلمانية سنة 2013، رغم مقاطعة واسعة من طرف المعارضة الراديكالية، أم أن رئيس حزب تواصل،محمد جميل ولد منصور، الزميل السابق لسيدي محمد في التنظيم السري، ما زال يحتفظ عن قصد ووعي براجماتي، بصلة خفية معتبرة مع ولد محم، خصوصا بعد أن أصبح،هذا الأخير، رئيسا للحزب الحاكم.
وأخيرا استضاف الصحافة المستقلة البارحة، ليلة السبت الموافق 08/01/2016 ، ضمن توقيت دقيق أو مخطط مرسوم ربما من طرفه أو غيره، وقال في هذا الحفل أنه يريد أن يكسر القاعدة !، للاستماع للإعلاميين بدل الحديث إليهم.
فهل هي القاعدة (التنظيم المعروف وعلى شاكلته داعش ضمن موقف معتدل استراتيجي، داخل التيار الإسلامي)، أم القاعدة اللغوية، أم هي القاعدة الأغلب من البسطاء؟ !.
أم هذا كله وغيره، أم هي بداية حملة لصالح سيد القصر، تمهيدا للحوار أو الاستفتاء أو المرحلة الانتقالية ، أو حتى لصالحه هو نفسه.
ومن وجه آخر وباختصار، فقد ساهم ولد محم في تكوين بعض عناصر قيادة تواصل الحالية والحركة الإسلامية في الثمانينات، وهو مهندس الجانب البرلماني من انقلاب سنة 2008، أو على الأقل أبرز واجهاتها البرلمانية الظاهرة، ضمن ما سمي وقتها،في المتداول الإعلامي و السياسي، بالكتبية البرلمانية، ربما استغرابا لدور ممثلي الشعب زيفا في شأن انقلاب عسكري صرف، كما أن ولد محم يعتبر نفسه من أهم دعائم نظام ولد عبد العزيز، خصوصا بعد انقلاب 2008.
يتحرك ولد محم،على رأي البعض، للوصول إلى أهداف كبرى، أكثر مما يتخيل بعض المغرر بهم من الإعلاميين أو السياسيين أو غيرهم بوجه عام.
وبقى ولد محم من أهم ألغاز المشهد النظام العزيزي الراهن، وقد يكون له شأن في مستقبل البلاد،بإذن الله تعالى، وقد لا يكون سلبيا تماما أو ايجابيا على الوجه الأمثل، فقد لا يستبعد لاحقا دخوله في تحالف مع بعض الإسلاميين وجناح معروف من الجيش، ذي صلة وثيقة بالطرفين.
وانصحُ أخي سيدي محمد ولد محم بعدم لبس الحق بالباطل وتدوير الكلمات واللعب على الذقون، كما تعود أغلب السياسيين في كل زمان ومكان، للأسف البالغ، وليحذر حذرا من غدر ولي نعمته الحالي.
عبد الفتاح ولد اعبيدن