استمعت للعلامة عبد الله بن بيه ، و قرأت له و حضرت بعضا من مجالسه الربانية , و تابعت كثيرا من دروسه و نشاطاته الرامية إلى استعادة ديننا الحنيف لألقه و مجتماتنا لجاهزيتها ( لمواكبة المتغيرات العالمية ) التي شابتها بعض الممارسات العبثية المصبوغة بصبغة تعليلية تستند في مجرياتها على معان محرفة لنصوص مقدسة تم السطو عليها و إسقاطها على أرضيات متصدعة .
خطاب العلامة ابن بيه , مع أنه خطاب مسموع و نافذ إلى القلوب , مفعم بالأمل و الرحمات و البشارات فإنه كذلك خطاب متجدد لما يتمتع به الشيخ من غزارة علمية و ملكة في التعبير و حظه الوافر من جوامع الكلم التي تجعل المتلقي يعود أدراجه أكثر من مرة لاتقاط كلماته الأنيقة - رغم كثافتها العالية – المنسابة دون تكلف و لا عناء و لا إسراف في التنظير و لا تقتير في المعنى و المبنى ....
كلمات الإمام ابن بيه و شذرات خواطره و عطر أنفاسه تتدفق حكمة في دروب مسالك فكره و رؤاه التي تمثل الظل الوارف و الحضن الدافئ و القلب الرحيم و الكف اللين و اليد البيضاء , فتراه يكسو تعابيره من المعاصرة ما به يتجمل عنفوان الأصالة الثابت في قوام عطائه .
و من شواهد معاصرة الشيخ لأصالته في الدراية و الفهم تفَوُّقه في قراءة مضامين التحولات العالمية و وسائل التحكم و آليات التأثير , و حرصه على تتبع مسببات الفوارق بين الأمم في الصناعات و التنمية و نجاح السياسات الداخلية و الخارجية و من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ؛ دأبه على التذكير و الالحاح على ضرورة رسم السياسات و اعتماد البحث و التخطيط العلمي و الاستراتيجي للمشاريع الفكرية و السياسية كي لا تتشتت الجهود البشرية و تضيع الموارد المادية في خضم تخبط السياسات غير المدروسة , حيث يقول الشيخ في مناسبتين على الأقل من المناسبات العلمية التي حضرتها له : إن علينا الاستفادة من تجربة الغرب في شيوع اعتماد مراكز الدراسات المتخصصة في مختلف الميادين معتمدين على الخبراء و ذوي الكفاءات كل حسب تخصصه و مجالات إبداعه , مذكرا بما لهذه المراكز و المعاهد المتخصصة من أهمية كبرى في توزيع الأدوار و تحمل أعباء التخطيط و إتاحة المجال لذوي الاختصاص و الاستفادة منهم في تسهيل عمل المؤسسات و الحكومات من أجل تنفيذ مشاريع جادة و واعية مع تنبؤ باحتمالات النجاح و الفشل حسب الظروف و المعطيات التجريببة قبل الاقدام بشكل عملي على التنفيذ , الشيء الذي قد ينقذ من خسارة محققة و يوفر جهدا أكبر و يعطي نتائج مضمونة .
من المعروف ارتباط نشأة مراكز البحوث و الدراسات بتطور الثورة العلمية التي كانت إحدى نتائجها الثورة الصناعية الحديثة , حيث تكاملت هذه المراكز في بداية نشأتها بمراكز المؤسسات العلمية و الجامعات ، فقد أخذت بمرور الزمن نحو الصناعة في ضوء اندماج المؤسسات العلمية بالصناعة و الذي وصل ذروته حاليا باحتضان الحكومات و الشركات الكبرى لهذه المؤسسات العلمية , حتى أصبح لمراكز البحوث و الدراسات دور ريادي في قيادة العالم و أضحت هذه المراكز أداة لإنتاج العديد من المشاريع الفاعلة و رسم السياسات , معتمدة في عملها على احتضان الكفاءات العلمية البحثية , فبقدر امتلاكها لهذه الكفاءات يتحدد أفق البحث العلمي و طبيعة نتائجه . و تأتي نظرة العلامة عبد الله بن بيه هذه مكملة لما يتصوره في مجالات علمية مختلفة كخلاص للأمة من فشل داخلي على مستوى الفهم و تطوير الأفكار , و تخلف في أساليب التسيير و التدبير , إضافة إلى العوامل الخارجية التي قسمت الأمة إلى معسكرات و شتات فُصِلت عراه عن بعضها البعض تحييدا للعقل و تضييعا للجهود و تبديدا لثروات الأمة في صراعات عبثية و مشاريع عشوائية تفتقر لوسائل النضج و مسببات النجاح !
حمزه ولد محفوظ المبارك