الدكتور محمد مراح
تجددت مسألة فرض رسوم مبالغ فيها لدخول لتونس ، فأثارت حفيظة الجزائريين الذي يدخلون تونس على مدار السنة، ويزداد إقبالهم عليها صيفا، والغيايات عديدة كما نعرف جميعا: سياحة وتطبيب وصلات رحم وتسلية ، وراحة خاطر ونفس .
تجددت لأنها كانت مثار لغط وسخط شعبي جزائري في السنة الماضية، حين صدر الإجراء التونسي ، فاضطرت عن قناعة أو ضغط أو براغماتية فاستدركت الحكومة التونسية استثناء الجزائريين منه. ثم جدّ الأمر هذه السنة في ذروة الإقبال الشعبي الجزائري على تونس للسياحة .
فما الذي يحدث بالضبط ؟ كيف يمكن النظر وفهم الأمر ؟ وما الذي ينبغي عمله؟
قبل الجواب عن الأسئلة نسجل الملاحظات الآتية الذكر :
تونس تعانى مشكلات اقتصادية كبيرة ، تهدّد استقرارها جذريا . ومن المألوف في مثل هذه الظروف الخطيرة إقدام الدول على قرارات صعبة ومستفزة أحيانا لشعوبها وربما لغيرها سواء كانوا دول جوار أو دولا ترتبط بها ترابط مصالح وتعاون واسعين .
تمثل الجزائر السند الأول لتونس كما عبرنا عن هذا في مقال سابق [ هل جوار تونس للجزائر نعمة أم نقمة] نُشر بصحيفة رأي اليوم الالكترونية بلندن :26\12015، إثر التصريحات الساقطة لساركوزي حول الجزائر، وعلاقاتها بجيرانها وأخواتها من دول المنطقة ، قلنا :(مثلّت الجزائر في هذه المحنة خير مساند عملي لتونس في كل ما عاشته منذ ثورتها ؛ رعاية لحقوق ، وماضى التاريخ المشترك ، ومكافئة على ما أدته تونس من أدوار كريمة شريفة وشهمة إزاء الجزائر خلال ثورتها التحريرية) .
اتسم التعاون الجزائري والتونسي على المستوى الرسمي منذ التغيير والثورة على نظام ابن علي ، بانسياب كبير، وسند قوي نموذجي . عمّقه الوضع المتردي في ليبيا . أما على المستوى الشعبي فتكفى هبة الشهامة بعد الضربة الإرهابية لعصب الاقتصاد التونسي .
تونس منفذ حيوي للجزائريين للأغراض والمصالح التي ذكرنا .والجزائر مثابة هامة جدا للتونسيين الذين يعانون كثيرا من الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، ونسبيا الأمني .
تونس تعيش مرحلة دقيقة من محاولة تجريف التجربة الديمقراطية لصالح المتضررين منالتحول أو ما صار يعرف في المصطلح الشائع (الدولة العميقة)، وهم بالطبع مساندو النظام السابق المتجذرون في دوائر الدولة ، والمنظمات السياسية والمالية ، وأصحاب المصالح ومن تحوم حولهم شبهات الفساد، أو هم كذلك لكن نفوذهم يبقيهم لحد الآن في منأى من المحاسبة والملاحقة القانونية
تمثل تونس حلقة الوسط في الاستراتيجية الدولية في المنطقة ، والمراهنة على إرغامها الرضوخ لمطالبها الأساسة : وهي تحويل تونس لقاعدة عسكرية تستعمل فيما يسمى (حرب الدولة في ليبيا ) .
وبالتالي تحويلها لمركز أوامر وعمليات الدول الكبرى صاحبة الاستراتيجية في المنطقة، الماضية في ترسيم الوضع المناسب لمصالحها في ليبيا تحديدا .
تُنوع الدول الكبرى ذات المصالح في المنطقة في أوراق الضغط والاستمالة؛ بين وعود وترغيب ، وتدخل مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية على الخط ؛ فتكثف من اهتمامها الواسع بالوضع والحالة التونسية ؛ فعلى سبيل المثال وصلتني في الأشهر الاخيرة عديد المقالات والدراسات والملفات التي أنجزها مركز (كارنيجي ) المعروف ؛ وجدير التنويه بالمستوى الرفيع الذي أنجزت به : معرفيا ومعلوماتيا من خلال الإحاطة الدقيقة بالوضع التونسي ، وتقديم حلول إجرائية كثير منها هام ومفيد جدا للوضع هناك . لكن كلّ هذا يندرج ضمن الاهتمام بتونس من زاوية المصلحة التي يمكن تحقيقها نتيجة استقطاب تونس للدائرة الأمريكية ، ومدى تجاوبها مع تطلعاتها في المنطقة .
ومما يدل على أولوية هذا الهدف وتقدمه عن باقي الأهداف أن أكثر تلك الدراسات يحجم الدور الإيجابي الكبير الذي أدته النهضة وحكمتها في التعاطي مع التطورات والتغيرات والاستقطاباتالداخلية ، على ضوء الدفع بتأسيس أركان الدولة الديمقراطية مع مختلف التوجهات والقوى السياسيين الأبرز على الساحة.
علينا التمتع بمستوى إدراكي ملائم للتحركات الاستعمارية ، التي جددت في استراتيجياتها وأساليبها وأدواتها ، فهي تطور كل ذلك بعزم ومعرفة دقية وإرادة فُلاذية منذ المرحلة الاستعمارية . وأعتقد دوما أننا في حاجة لإعادة قراءة طروحات المرحوم الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى في أليات وأساليب الاستعمار ، فلنقرأ الواقع الغريب المعقد الجاري في المنطقة الآن على ضوء –مثلا – كتابه الفريد (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ) ، لكن بعقلية مدققة محلّلة . فالخبث الاستعماري تلميذ نجيب للمدرسة الإبليسية العريقة التي تأتيك أحيانا في أثواب الناصح الأمين ؛ كي لا ينهار على رأسك سقف المسجد وأنت تتعبد فيه .
كما أن التحليل الذي يتجاهل أو لا يعرف الرؤية الحضارية لحركة الأحداث والقضايا وتغيراتها ،مردوده في الفهم والفائدة قليل الجدوى، وكثيرا ما يكون كارثة ، قد تخدم الأهداف والمشروعات الخبيثة .
الصراعالذيتديرهأطرافداخليةوخارجية؛تهدفلتعكيرمستوىالتعاونالمتقدمبينالجزائروتونس،فيالمنعطفالحاسمالذييمربهالتغييرفيتونس. ممّا يرجح هذه الفرضية التناقض الكبير في المواقف والتصريحات التونسية حول موضوع استثناء أو عدم استثناء الجزائريين من إتاوة دخول تونس ؛ وهنا نسأل هل مرد هذا التناقض والاضطراب الحرج الذي يسببه الأمر في حال الاستثناء إزاء الداخلين لتونس ، والدول المعنية تراقب وتلاحظ ، ولا شك أنها ستثير الموضوع بما تراه مناسبا ؟ أم هو الحرج أيضا الذي تسببه الإتاوة نظرا للموقف الجزائري والتعاون النوعي بين البلدين ، والدعم النوعي معنويا وماديا الذي قدمته ولا تزال تقدمه الجزائر لتونس من منطلقات عدة ؛ منها واجب الجوار والإخوة ، التعبير عن الاعتراف بجميل الموقف التونسي إبان الثورة والجزائرية ؛فكانت بمثابة القاعدة الخلفية للثورة الجزائرية من الناحيتين الشرقية والجنوبية الشرقية ، وأهم معبر للسلاح القادم من مصر والسعودية للثورة الجزائرية بعد وصوله لليبيا ثم نقله لجيش التحرير عبر تونس ، وبإيواء قادة السياسيين والعسكريين للثورة ، وفصائل كبيرة لجيش التحرير فضلا عن اقتبال العدد الكبير من اللاجئين؟ ، أو درءا للمخاطر القادمة من الوضع الليبي . فإن يكن الأمر كذلك فيمكن تفهمه، لكن في المقابل ينبغي التفكير في الحلول الملائمة لنوعية العلاقة ،بين البلدين والشعبين ، وللمصالح المتبادلة بين الشعبين من خلال الدخول والخروج السلسين للبلدين .
والمعروف دوما أن المعاملة التفضيلية لبلد ما من التقاليد والأعراف الدولية المرحّب بها . وهنا نرى من المناسب اعتماد صيغة تفضيلية للجزائريين في موضوع الضريبة بالتخفيف أو الإلغاء ؛ كون تونس تحصل على منافع مادية ومعنوية معتبرتين من خلال هذا التواصل والتنقل الواسع .
لكن الاحتمال الأسوأ لهذا التناقض هو أن يكون إحدى مظاهر وصور الصراع على النفوذ داخل دواليب الدولة التونسية ، في سياق الرؤية التي يعبر عنها هذا المقال ؛ سواء كان الصراع داخليا – داخليا، أو دالخيا مدعوما خارجيا للتأثير على المواقف الجزائرية سواء فيما تعلق بالقاعدة الأمريكية في تونس ، أو التدخل العسكري الغربي في ليبيا . وهنا لا يعدو ( فص الضريبة) سوى صامولة في دولاب الآلة الرهيبة للقوى الكبرى المستميتة في ترتيب الأوضاع الليبية حسب مسار التحكم في مناطق النفط الليبي الذي يعد من أجود أنواع النفط في العالم . وهذا العنصر تكاد تجمع الآراء على أنه الهدف الأكبر لما حدث ويحدث في ليبيا . والشعوب في مقدمة من أدرك ويدرك الأمر والحقيقة
فما الذ يمكن فعله على ضوء ما تقدم ؟
فضلا عن الإجراء التفضيلي المنوه به سلفا ،أعتقد أن الجزائر تحيط علما بمجريات الأمور في تونس، خصوصا في بعدها الدولي ، ويمكنها بناء تحركاتها على ضوء ما توفر لها معلومات عن النوايا المبطنة أو المعلنة ، فتستمر في موقفها الجيد بالمساندتين المادية والمعنوية ، ولسنا في حاجة للتنويه بما يمثله كل بلد للآخر من عمق استراتيجي ، كباقي بلدان المغرب العربي بعضها لبعض .
وقد أشارت تقارير وتصريحات باحثين ومراقبين كثر إلى أن المقصود من الضغط على تونس ومزيد من التعفين في ليبيا ، المنطقة كلها بالطبع لكن النصيب الأكبر للجزائر ؛ لميزاتها الجغرافية وثرواتها .
اعتماد الدبلوماسية الهادئة لحلّ مشكلة الضريبة على نحو يحفظ للجانبين الفائدة ، وسد الذريعة لتوتير الأوضاع والعلاقات بين الشعبين، ومنح المغرضين ورقة غير ذات بال لكنها رابحة.
ومع هذا نرى أن الفرصة متاحة للدولتين الآن كي تذهبا إلى مستوى نوعي من التعاون ، كالمشاريع الاقتصادية ذات الجدوى حسب ميزات البلدين وامكانتهما المادية والبشرية ، و استهداف تحويل البلدين إلى مجال استقطاب لعناصر المال الفكر والعمل من المنطقة المغربية كلها ؛ ألا يمكن أن يكون الوضع المحبط المأساوي مناسبة ثمينة لتغيير مجرى الأمور لتعبيد طريق الوحدة المغربية أمل الشعوب من بوابة هذا النوع من الاستثمار ؟ الأمر ممكن في الرؤية الحضارية ، والإمكانات ، لكن وكُلُّ لكن في مبادرة سياسية حكيمة، رغم الغيوم الكثيفة والظلام الدامس .
كاتب مغربي