أعطت نتائج الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي في حزيران/يونيو الماضي إشارة مهمّة إلى بدء تحوّل كبير في العالم، وفي الديمقراطيات الغربية خصوصاً، ما لبث انتخاب المرشح الجمهوري دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية أن أكّده وهو الصعود المركز لليمين الشعبوي، الأمر الذي يطرح مخاطر عديدة على النظام الديمقراطي نفسه وليس فقط على الحريات الليبرالية والمكاسب الاجتماعية الكبيرة التي حققها للمجتمعات الغربية.
دلائل عديدة تشير إلى أن هذه الموجة قد تكون مؤهلة لاكتساح أوروبا التي شهدت أمس استفتاء في إيطاليا حول إصلاحات دستورية تعارضها أحزاب المعارضة، وبينها حزب «الخمسة نجوم» الجديد والذي يركب موجة الشعبوية الأوروبية نفسها، وهناك أوضاع مشابهة في الانتخابات المقبلة في الدنمارك وهولندا وألمانيا.
يضاف إلى ذلك أيضاً اختيار اليمين الفرنسي المحافظ لفرانسوا فيون، المرشح الأقرب للتيار السياسي لليمين المتطرف والذي خاض معركة طاحنة ضد المرشح الأقل تطرفا، ألان جوبيه، وكانت إحدى الطرق المستخدمة ضده هي تحوير اسمه إلى «الله جوبيه» (في تعريض بتحالفه مع المسلمين الفرنسيين)، واللافت أن فيون سيتواجه مع مرشحة أكثر تطرّفاً منه هي جان ماري لوبان (التي، بين أمور كثيرة مشابهة لنظرائها الأوروبيين، وعدت هي أيضاً بإجراء استفتاء عام حول العضوية في أوروبا)، فيما ستكون حظوظ اليسار، ممثلة برئيس الحكومة الفرنسية السابق مانويل فالس، هي الأضعف، إذا أخذنا في الاعتبار التحوّلات العاصفة الجارية في القارّة والتآكل التدريجي لليسار وقواعده الاجتماعية وطروحاته عموما.
حزب نوربرت هوفر، مرشح اليمين المتطرف النمساوي للرئاسة الذي خسر الانتخابات بالأمس، سبق وأن رفع شعار «سنجعل النمسا قوية» الذي يشبه شعار ترامب «سنعيد أمريكا قوية»، واضافة إلى مناهضته ما يسمى «أسلمة أوروبا» وللهجرة وهي عناصر متشابهة في برامج ترامب وبريكزيت (وان كان هذا الاتجاه في بريطانيا يعلن أنه ضد المهاجرين عموما) واليمين الفرنسي، فإن هوفر استخدم قسم الولاء للزعيم النازي هتلر (فليساعدني الربّ) وهو أمر لم يعد، في المناخ العالمي الراهن، يثير القشعريرة والخوف لدى الجمهور الأوروبي العامّ لأنه يبدو موجّهاً ضد المسلمين فحسب.
تتميز هذه التيارات اليمينية الشعبوية بإعجاب متبادل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونموذجه الاستبدادي في الحكومة، وهو أمر يعود، من ناحية، إلى استثمار روسيا وبوتين في دعم هذه التيّارات ماليّاً وسياسياً وإعلاميّاً، والمراهنة عليها، ولكنّه أيضاً يظهر مشاعر لدى تيارات اليمين المتطرف، تجمع بين الانزعاج من المؤسسات الديمقراطية التي منعتها طوال عقود طويلة من الوصول إلى سدة الحكم، والرغبة في إضعاف هذه المؤسسات لصالح حكومات قادرة على تجاوز ما راكمته الديمقراطيات من أشكال التأمين الاجتماعي والصحي للفقراء والمعاقين والكراهية المعلنة للنساء والأقليات والحريات الصحافية، وهذا يفسر هذه التأكيدات المستمرة على أمريكا وفرنسا «قويّة»!
تستخدم هذه التيارات اليمينية الشعبوية المصاعب الاقتصادية التي تعانيها شعوبها والمناخ الذي خلقته موجة الهجرة الكبيرة من العالم العربي والإسلامي لتقديم حلول انتهازية سريعة تقوم على معاداة الآخرين واستعادة القيم المحافظة وهي سياسات سبق لها أن أدّت إلى حربين عالميتين وكوارث سياسية واجتماعية، لكن أغرب ما في هذه الظاهرة هي أنها تجد الآن تأييداً من القطبين المتخاصمين السابقين، أمريكا وروسيا، تحت قيادتي ترامب وبوتين، وهو ما قد يجعلها أكثر خطورة بكثير، ليس على العرب والمسلمين فحسب، بل على العالم بأكمله. عام 2017 سيكون عصيباً.
رأي القدس