قمر لامع ذلك الذي يتسلق السماء الآن، لقد رأيته وهو يسكب جماله بكل سخاء فوق تلك الرمال الصقيلة، كأنه يود أن يرش أشجار الوادي الواقفة بصبر قرب خاصرة الصحراء الكبرى ببعض نوره اللطيف...
بعد غروب الشمس ورحيلها بيوم لن يعود أدراجه أبدا!
وصل إلينا القمر مكتملا، وجلس على كرسيه المتحرك شرق مدينة تامشكط، بدا حزينا ويشعر بالوحدة، عندما رأى الناس لا تهتم بإطلالته، لقد انشغلوا عنه بالهواتف ووميض الأقمار الصناعية، لا أحد نثر أمام نظراته شيئا من طقوس التأمل، أنا وحدى رفعت كاميرا هاتفي حتى التقط معه "سيلفي"، لكنه امتعض وبشدة؛ حينما همس في أذني قائلا: " إن هاتفك أيها الأستاذ عتيق وشاشته رديئة تماما، ولا أود أن التقط سيلفي معك"، لقد وصلت مآسي قطاعكم إلى الفضاء "الخارجي"، لقد رأيت أشعة شمس الظهيرة، وهي تسخر من أحذيتكم المتقطعة في رمضاء التعليم، إليك عني أيها الأستاذ "المسكين"!
ربما تشوه صورتي مثلما فعلت معي وكالة ناسا، لقد قالت للعالم بأن وجهي مليء بالتجاعيد الخشنة، وبأنني خدعت شعراء القرون الوسطى وعشاقها، حينما تركتهم لقرون خلت يشبهون وجوه حبيباتهم بوجهي..
لكن السيدة ناسا لا تعي ما تقول! لقد أتعبها البحث عن الماء على الكوكب الأحمر دون جدوى، وعندما لم تجده جعلتني كبش فداء ورمتني بالعتمة، كأنها لم تكن تعلم أنني مجرد سراج منير، كما ورد في القرآن الكريم. على ذكر اللون الأحمر، لقد سمعت أنكم في موريتانيا بصدد تخضيب أصابع علمكم بالحناء، وأنكم تفكرون بتعديل دستوركم.
لا أعرف ما أقول بكل صراحة، يبدو أنني مضطر للكلام معك أيها الأستاذ، مع أنني كنت أبحث عن نسوة يتحلقن حول طبل ويرددن بعض الأهازيج، لكي أقضي برهة مع الفرح العفوي والنقي المنبعث من حناجرهن، فلدي مودة خاصة جدا للصحراء، رغم أنني أجوب جميع مناطق العالم من سيبريا وحتى نهر المسيسيبي..
لقد رأيت بلدانا جميلة، ودماء كثيرة تسفك، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، ففي ذاكرتي الكثير من أسرار البشر وحروبهم، لقد كنت شاهدا على حركة التاريخ وصروف الدهر. لكنني صدقا، أحببت جدا صحرائكم هذه الشبيهة بالمرآة، لطالما أبصرت فيها ملامح وجهي، وأنا أعبرها ليلا بمحاذاة تلك القوافل الصبورة.
سأخبرك بسر أيها الأستاذ، لكن لا تغضب!
منذ ملايين السنين وأنا أجوب أرضكم، منذ قبائل البافور وحتى انشاء مطار أم التونسي الدولي، بصراحة شديدة لم أفهمكم، رغم عفويتكم وكرمكم وطيبتكم الظاهرة، إلا أنكم أكثر تلونا من جلد "الحرباء"، وأسرع تقلبا من مناخ العاصمة، وأسرع نسيانا من المجانين، وأكثر فوضى من طلاب السنة الأولى إبتدائية، تبيعون كل عهودكم مقابل أي شيء ضئيل من متاع الدنيا، هذا ليس كلامي أنا طبعا، بل هو كلام أنت أيها القمر...
سامحني أيها القمر، لقد تأخر الليل!
فتش عن أحد يسهر معك، ليخفف عنك ألم الوحدة الذي بت تقاسيه منذ مطلع القرن 211. أما أنا فسأخلد للنوم حتى لا أنام غدا أمام التلاميذ أثناء الحصة، لكن قبل أن أودعك، بلغ سلامي لكل الذين يريدون أن يعيشون في هذا الوطن بسلام، لكل الذين يستيقظون صباحا ليعملوا بصمت، بعيدا عن ضجيج المن والنضال الرقمي..
أيها القمر:
بلغ تحياتي أيضا لقمر صغير يشبهك، يسكن هنالك بدار البركة. وقل له بإنني أحبه في الله.
هنا تامشكط، الصورة المرفقة ملتقطة بعد الغروب أثناء صعود القمر، قرب أطلال الحامية العسكرية، والتي تم بناءها 1927، والغريب وأنا أتمشى على أنقاضها ذات مساء عثرت على أطلال سبورة مدفونة وسط الرمال..
الغريب أن طلاء تلك السبورة ورغم عاديات الزمن، يبدو أكثر جودة من طلاء السبورة التي أدرس عليها اليوم.
الساعة 01:122 صباحا وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
---------------------
من صفحة الأستاذ خالد الفاظل على الفيس بوك