في حدود علمي، من خلال ما تتبعت من تصريحات لسعد الدين العثماني وبعض كتاباته منذ العديد من السنوات، خاصة بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية ودخول الإخوان مرحلة الشرعية السياسية والحزبية في المغرب، لم يسبق له أن غلب المرجعية والخطاب الدعوي على حساب السياسي والعلمي، أو زايد بها في الصراع الحزبي والنقاش العمومي وسعى إلى دغدغة مشاعر الناس واستمالة الأتباع والمتعاطفين، كما يفعل إخوانه بكل تصلب وتعصب؛ بل إنه عبر مرات عن مواقف وأراء مضادة ومفاجئة، خاصة في ما يتعلق بقبوله بعلمنة الدولة، وبالدولة المدنية، والتمييز بين الديني والدنيوي، إذ دافع عن كون القرآن والسنة لم يحددا شكلا للنظام السياسي في الإسلام، وعن ضرورة التمييز بين مفهوم الأمة في الدين وفي السياسة، حيث تتحدد وفقه في روابط الانتماء إلى الوطن وليس في الروابط العقائدية.. كما تناول ذلك في كتابه "تصرفات الرسول بالإمامة"، الذي اعتبره بعض الكتاب تأصيلا للعلمانية وثورة في فكر الحركة الإسلامية.
إضافة إلى أفكار وأراء سعد الدين العثماني التي يمكن أن تقوي وتزكي خيار هذا الانتقال الممكن في فكر وممارسة حزب العدالة والتنمية للفعل السياسي، يمكن النظر إلى بوادر الخلاف الذي بدأ يكبر بين صفوف قيادات وأعضاء الحزب وجماعة التوحيد والإصلاح، والذي كان تشكيل الحكومة معبره السلوكي وتجليه السياسي، خاصة بعد إعفاء عبد الإله بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة، وهو الذي قامت شخصيته وممارسته السياسية على الانتماء الدعوي والخطابة الدينية والمزايدة بإسلامية الحزب في الصراع السياسي، خاصة في الأسابيع الأخيرة، وبشكل جلي في خطبة الوداع بالواليدية، وبعد تعيين سعد الدين العثماني وتجاوزه السريع لسبب "البلوكاج" بالقبول بإدخال حزب الاتحاد الاشتراكي ضمن تركيبة الحكومة التي سيترأسها.
وهنا يمكن الوقوف عند هذه الملاحظات الإضافية والدالة لتأكيد منطلقات هذا التحليل وممكنات التحول:
تساءل الكثيرون عن سبب رفض بنكيران والعديد من مكونات الحزب لدخول حزب الاتحاد الاشتراكي للحكومة، وبكل العناد والحزم الذي رافق العملية وأفضى إلى تعويضه بالعثماني، خاصة بعد أن تم سحب تشكيل وانتخاب رئاسة البرلمان من المكلف بتشكيل الحكومة ومفاوضات الأغلبية، وإسنادها إلى الاتحاد الاشتراكي، وقبول العدالة والتنمية بذلك دون تقديم منافس ودون التصويت ضد المرشح الحبيب المالكي!
فهل إضافة حزب إلى خمسة أحزاب تمسك بها بنكيران، وإضافة منصب وزير أو وزيرين من الاتحاد الاشتراكي في حكومة ائتلافية بأكثر من أربعين حقيبة، هو ما جعل الحزب يرفض التحاق الاتحاد الاشتراكي من قبل؟ وهل قبول العثماني بذلك كاف لتفسير حجم الاختلاف والردود الرافضة والمخونة والمتشدقة بنفس الديمقراطية والانتقال الديمقراطي وتأبين الإرادة الشعبية وغيرها من الإسقاطات والمزايدات التي لا تستند إلى أسباب موضوعية وديمقراطية فعلا، والتي تخفي أشياء أخرى؟
أليس لمواقف إدريس لشكر وبعض أعضاء حزب الاتحاد الاشتراكي في الشهور الأخيرة من قضايا المرأة والإرث والقانون الجنائي والحريات، ولو في إطارها الإيديولوجي والإعلامي، دور في ما يجري، والسبب الأساسي في تعنت بنكيران ووعاظ الجماعة في الرفض، وقبول العثماني بكل سرعة؟
بالتوقف عند كلمة عبد الإله بنكيران خلال اجتماع لجنة حزبه للبت في ترشيحات الاستوزار، وكل ما تخللها من محاولة إظهار الوضوح والنضج والحرص ونكران ذات من جهة، ومن غموض واستياء ولمز وغمز، من جهة أخرى، ألا يتضح أن نقاش الدعوي والحزبي احتدم وصار أمرا واقعا في حاجة إلى حسمه في مسار الحزب؟.. كما يتضح ذلك من خلال تأكيد بنكيران على أن الحزب يجتاز مرحلة عصيبة، ومن خلال حرصه على مغادرة الاجتماع وترك مكانه لنائبه العمراني الذي صاغ صلح الحديبية، بناء على أدبيات الجماعة ومرجعيتها، وليس على أساس أرضية ووثائق الحزب السياسي ومشروعه الذي يعلنه في الساحة السياسية لطمأنة الدولة والمجتمع وتجديد شرعيته الحزبية، خاصة بعد الأحداث الإرهابية للدرالبيضاء التي لعبت "علمانية" العثماني وآراؤه حول مدنية الدولة ولباقته التواصلية دورا ملحوظا في تجاوزها واستمرار الحزب بعدها.
لا شك أن حزب العدالة والتنمية يمر من مرحلة حاسمة في مساره السياسي والديمقراطي، وفي الحسم في هويته السياسية بين الدعوة والجماعة وبين الحزبية والمدنية، ولم يعد ممكنا الاستمرار في هذا الخلط والتوظيف السياسوي المنافي للدستور والقانون ومسار تطور المجتمع وتحديثه.
وفي مثل هذه التحولات الكبرى لا بد من المراجعة والتضحية لتأكيد شرعية الانتماء فعلا إلى الوطن وروابطه وقضاياه، وليس إلى الأمة والجماعة، ولو تمت التضحية جزئيا بجاذبية وقوة حتى لا نقول أوهام ومتاجرات الجماعة لصالح الحزب السياسي المدني، الحزب وليس الخليط الذي رعاه ويحرص عليه بنكران وبعض ووعاظ الجماعة حتى آخر ساعة.
رشيد الحاحي*
*أستاذ باحث وكاتب