قبل سنوات قليلة، ذهبت الى جزر القمر، الدولة الصغيرة، الفقيرة والخلابة الشواطئ والجمال والغنية بالثروات الطبيعية من سمك وفواكه وغيرها. هي دولة انضمت الى جامعة الدول العربية في العام ١٩٩٣. رحت أتجول في شوارع عاصمتها وبين ناسها الطيبين، فلفتتني أسماء إيرانية كثيرة: مستشفى الإمام الخميني، المركز الثقافي الايراني، مستوصف الامام الخميني، الهلال الأحمر الايراني... الخ.
حملت استغرابي وذهبت للقاء الرئيس عبدالله أحمد عبدالله سامبي. كانت فرنسا قد سلبت باستفتاء احدى الجزر الأربع التي تتشكل منهم تلك الدولة الافريقية الهادئة والناعمة. قلت له " يا سيادة الرئيس لماذا ترتمي في حضن إيران وانت الداخل لتوك الى جامعة الدول العربية؟". ابتسم وقال بذكائه المعهود: "أنا يا اخي دعوت، ولكن دون جدوى، الاخوة العرب لأن يشاركوا بلادنا خيراتها التي حباها الله بها، لم أطلب صدقات ولا زكوات وانما قلت لهم تعالوا استثمروا ففيدوا واستفيدوا" وأخبرني كيف أنه طاف على عدد من القمم العربية يبحث عن تغطية ديون بلاده التي كانت لا تتعدى ٨٠ مليون دولار فعاد خائبا..... حينها جاءت إيران تفتح له منح التعليم للطلاب وتقيم المنشآت الاجتماعية والتربوية والصحية الصغيرة لمساعدة الناس .... دخلت إيران من حيث تخلى العرب.
قبل سنوات قليلة أيضا ذهبت الى جنوب السودان، فوجئت بعيون ووجوه غير مرحبة بي أنا العربي عندهم. وجدت في الأحياء الفقيرة وبين بيوت الصفيح وخلف الأطفال الحفاة، مجموعات مسيحية تبشيرية غربية تحمل صلبانا خشبية كبيرة في منطقة كان يتوهّم الزعيم الإسلامي السوداني د.حسن الترابي أن يصدر اليها فكره الإسلامي ( بدلا من تصدير الطعام) ، ووجدت فندقا يحمل اسم " شالوم" اليهودي قبل أن ينفصل الجنوب. لم أجد أثرا عربيا واحدا سوى مستشفى مصري أقيم حديثا. فتوقعت الانفصال دون أي عناء فكري. لم يكن الزائر بحاجة الى كثير تفكير ليفهم أن هذه المنطقة الجنوبية ذات الخيرات الهائلة( ٧٠ بالمئة من الثروة النفطية، و١٢٨ مليون رأس ماشية، وملايين الهكتارات الخصبة، وعشرات الأنهار) آيلة الى أياد غير عربية قريبا جدا. هذا ما حصل فعلا ... بينما كانت الخرطوم مع الرئيس عمر حسن البشير قد عززت تماما علاقاتها مع إيران وصارت أكثر الدول الافريقية قربا من طهران، قبل أن تصحو السعودية على التقصير وتغدق عليها المال لتجذبها الى جانبها في صراعها مع إيران... وما ان ابتعدت حتى تم تخفيف العقوبات الأميركية عنها.
وقبل سنوات قرر جورج بوش الإبن الذي تخيّل نفسه مسيح الخير ضد دول الشر، اجتياح العراق. اخترع مع صديقه البريطاني توني بلير كذبتي أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الرئيس الراحل صدام حسين مع القاعدة. تعاون معظم دول الخليج وفي مقدمها السعودية مع واشنطن لتسهيل الاجتياح واعدام صدام ( راجعوا الكتاب القيم لبوب وودورد، او مذكرات بوش وبلير...)، فكانت النتيجة أن تم تسليم العراق لاحقا لإيران حيث صارت اللاعب الأبرز فيه. صدام ارتكب حماقة احتلال الكويت، والعرب ارتكبوا حماقة تسليم العراق الى ايران والمساهمة في تقسيم ما بقي منه.
حين غرقت سوريا في حربها وفي الحرب عليها، اتخذت أبرز دول الخليج قرارا تعليق عضوية دمشق في جامعة الدول العربية. راحت تمول المسلحين لإسقاط النظام بالقوة. اخترعت معارضة تناسبها ولا تعبر عن هموم الناس في الداخل. همشت وجوها معارضة مهمة. كانت النتيجة أن عزّز الرئيس بشار الأسد وأكثر من أي وقت مضى علاقته الاستراتيجية بايران، فصارت مع حزب الله أبرز اللاعبين على الساحة السورية لصد الهجمات ودعم الجيش السوري حتى بعد الانخراط الروسي الكبير.
وهذا اليمن الذي كانت أبرز قبائله على علاقة وطيدة مع الجار السعودي الكبير وتحديدا مع الأمير الراحل سلطان ، خصوصا قبيلة حاشد بزعامة شيخها الحكيم ورئيس مجلس النواب السابق عبدلله بن حسين الأحمر. ها هو اليمن ينقسم بين جزء مدعوم من الرياض (رغم أن كثيرا من هذا الجزء كانوا ولا يزالون ضد السعودية ضمنيا ومنهم وزير الخارجية نفسه عبد الملك المخلافي ) وجزء مناهض لها يجد دعما سياسيا كبيرا وعسكريا ضئيلا له في ايران وعند حزب الله. صارت ايران عند حدود السعودية من بوابة اليمن.
انسحب الأمر نفسه على لبنان. فكثير من اللبنانيين يعملون في الخليج وربطتهم به علاقة محبة وغيرة. وحتى سنوات قليلة لم يكن في لبنان من يناهض السعودية غير اليسار. كان كثيرهم يحلم بالسفر اليها والعمل أو الى الامارات الجميلة. لكن حين جارت إسرائيل بعدوانها الدموي الاجرامي غير مرة على لبنان وناسه ودمرت بناه التحتيه وقتلت البشر فيه، اختارت السعودية أن تناهض حزب الله وتلومه، بينما كانت قطر تحتل مكانها في لبنان وتعيد اعمار جنوبه وتتواصل مع الحزب (رغم تواصلها في الوقت عينه مع إسرائيل). كانت النتيجة أن دخلت ايران من البوابات اللبنانية الواسعة وصار لها حلفاء أقوياء يقررون شكل الحكم ومستقبل البلد.
يمكن أن نستمر في ذكر الأمثلة حتى الصباح، ويمكننا أن نمر على مصر الدولة العربية الأكبر، وندرس بامعان تفاصيل العلاقة المعقدة والكيدية التي ربطتها بالرياض منذ قدوم الرئيس عبد الفتاح السياسي، لنعرف أنه في لحظة معينة كادت القاهرة تفتح خطوطا مع ايران للضغط على السعودية، خصوصا حين ذهب مسؤولون سعوديون الى اثيوبيا يعرضون الاستثمار فيها بينما كانت أديس أبابا في أوج صراعها مع القاهرة بشأن سد النهضة. شعرت القاهرة بشيء من المهانة، فكادت تغلق الأبواب.
أما فلسطين، التي قرر رئيسها لسبب نجهله وقف كل أنواع المقاومة المسلحة ضد إسرائيل التي تستمر في قتلها المسلح لما بقي من شعب وأرض، فإن السعودية بقيت على تنافرها مع حماس ومقاومتها المسلحة في الداخل وجناحها السياسي في الخارج، فلم يجد هؤلاء مرة جديدة سوى ايران موئلا، ولعلهم سيذهبون أكثر صوب طهران اذا ما كثّف دونالد ترامب ضغوطه لفتح علاقات مباشرة بين دول الخليج وإسرائيل بذريعة وهم السلام، الذي كلما طرحه العرب مزّقه الإسرائيليون ورموه في سلة المهملات.
لكل دولة الحق في حماية مصالحها، وللسعودية الحق في الدفاع عن وجهة نظرها وتحسين موقعها ورفع مستوى اقتصادها بعد ان تضاءلت الحاجة الاميركية للنفط. وللسعودية الحق في أن تقرر مواجهة ايران على الساحات العربية بينما كان يمكن ان تهاجمها مباشرة عند حدودها في الجزر الثلاث التي يطالب الخليجيون باستعادتها ( طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى) ، لكننا نسأل هنا، هل أن ما قامت وتقوم به الرياض حتى الآن من توسيع نطاق المواجهة والتمدد من الخليج الى المغرب الى افريقيا فآسيا، ساهم في اضعاف الدور الايراني في الدول العربية أم عزز هذا الدور وقوّاه الى درجة كبيرة؟
الآن السؤال مطروح بشأن الموقف الخليجي من قطر. لدول الخليج مليون سبب لمعاداة قطر ومعاقبتها، لكن هل قرار القطيعة مع الدوحة كان صائبا فعلا في المواجهة مع ايران؟ أم أن الضغط عليها عزز العلاقات الايرانية القطرية، لا بل وسحب نهائيا ذريعة كبيرة كانت تستند اليها الاستراتيجية السعودية، أي مواجهة "الشيعية السياسية" و"الفارسية السياسية" و"الهلال الشيعي" ، فايران التي تربطها بعدد من دول الخليج مصالح كثيرة وتتشارك مع قطر بأكبر حقل غاز في العالم وتتعاون معها الآن ( ولو بحدود) على الجبهة السورية، لم تعد بعد الأزمة القطرية ، الدول الفارسية الواجب محاربتها من أهل السنة ، وانما هي الدولة الشيعية الوحيدة التي وقفت الى جانب الدولة السنية الخليجية للتخفيف من الحصار الفروض على أهلها، وهي تتعاون مع تركيا الدولة السنية الكبرى للغاية نفسها ...
يخطيء من يعتقد أن الشعب العربي صار راغبا بسلام الاستسلام مع إسرائيل، اذهبوا إلى موريتانيا و الجزائر والمغرب وتونس واليمن والسودان قبل الشرق الأوسط، اسألوا الناس هناك هل يقبلون بجرائم إسرائيل المتفاقمة منذ التطبيع معها ومنذ مدريد واوسلوا؟ اكيد لا ...ان شعب الجزائر نزل الى الشوارع يناصر فريق فلسطين الرياضي صد فريق الجزائر في آخر مباريات كرة قدم بينهما . ويخطئ من يعتقد أن كل نصير عربي للمقاومة هو فارسي وشيعي ومجوسي وغيرها من النعوت البايخة، أن العرب يائسون ويريدون من ينصرهم ضد إسرائيل، فلا تسلموا ما بقي من دول عربية إلى إيران أن كنتم لا تريدون لدورها أن يكبر ... ضعوا استراتيجية تصالحية عربية وقرروا مواجهة إسرائيل او وضع حد اجرامها ، أو اذهبوا للصلح مع إيران......فالاستراتيجية الحالية خدمت ايران بامتياز ...
انطلاقا من كل ما تقدم، قد تبدو السعودية حاليا، وربما دون أن تدري، أكبر حليف لإيران، وأكبر مساعد لتمدد دورها في المنطقة .... الا يستحق الأمر تأملا؟