ربيع تركيا/عناية جابر
الجمعة, 07 فبراير 2014 01:21

من يظن اليوم أن ما يجري في المجال الجغرافي-السياسي العربي هو موضوع داخلي يتصل بأشكال الحكم ونوعية القوى التي تتحكم به هو جاهل بأحكام التاريخ والجغرافيا معاً. فهذه المنطقة، وأياً تكن رغباتنا الشخصية أو العامة، لطالما شكلت لوحة واحدة لا تتحرك إلا بكافة

عناصرها سوية. وهي لطالما تميّزت بغلبة صراع الدول فيما بينها على صراع القبائل الصحراوية محدودة الأثر. القرن الفائت لم يزد هذه القاعدة إلا ثباتاً وصحة ورسوخاً. فبعد عقود طويلة على الإستقلال العربي وانهيار الامبراطورية العثمانية وبروز دول عربــــية حديــثة مع نخب عربية جديدة عادت لعبة البازل القديمة لتطفو على سطح الأحداث وكأن شيئاً لم يكن.

 

عاد ‘الدور’ التركي و’الدور’ الإيراني إلى الواجهة وإن اتخذا للمناسبة أسماء جديدة. بين الدول، الجديرة بهذه الصفة في المنطقة، قواعد علمية تشبه قواعد الأواني المستطرقة. هي هي القواعد التاريخية وإن اضطرت اليوم للتعاطي مع قوى خارجية دولية أقوى منها وأعظم سيطرة. الصراع بين الدورين، بين الدولتين، على التمدد والنفوذ ما يزال هو هو. وكلما امتلأ أحدهما فرغ الآخر. وهكذا. لن نعود إلى ما سمي ‘الربيع العربي’ بتفاصيله الداخلية، هذا الربيع الذي لا يمكنه ان يحجب الصراع الفعلي الأعم، الإقليمي.

 

ليس من فائدة في التبسط في مقاصد التركي الواضحة من وضع يده على تحرك الربيع العربي في بداياته. من علاقاته بطرف رئيس فيه هو ‘الإخوان المسلمون’، مروراً ب’تعيين’ المهمات الربيعية وتقصّد إعلانها على الملأ، وصولاً إلى تبليغ من يهمه الأمر بضرورة ترك السلطة عاجلاً وفوراً، لم يكن التركي يخفي اهتمام دولته بالتمدد إلى حيث تعتقد أن لها الحق بالتمدد.

 

في التاريخ التركي حركتان مهمتان ينبغي ربما الانتباه اليهما عندما نتحدث عن التمدد. فتركيا وبسبب من جغرافيتها شهدت صنفين من النزوع الجغرافي: غربي وجنوبي شرقي، صوب أوروبا وصوب الجنوب العربي. وههنا علينا ألا يغيب عن بالنا أنه وفي بداية الربيع العربي كانت تركيا في عز حملتها الغربية لإقناع الأوروبيين ب’أوروبيتها’. غير أن ذلك كان قبل الربيع العربي وصيده الوفير، وفقاً لأكثر التوقعات تشاؤماً.

 

اليوم يواجه الدور التركي إخفاقاً بالإتجاهين. اتهام رئيس الوزراء التركي العالم بالقيام بمؤامرة ضد بلاده دلالة واضحة. فبعد ان كانت مشكلة تركيا تتمثل بالحيرة من كثرة الخيارات، انتقلت من دون شك إلى مرحلة الصدمة من ندرة الخيارات بعد أن ساهمت سياستها في سد الطرق كافة. وهذا الوضع ليس من دون كلفة داخلية قطعاُ. الإيقاع الهجومي انقطع فكثر العزف الفردي والعازفون في مقام التحالف الذي كان قائماً على رأس السلطة التركية. وبعد ان اقتصر التصدع على الطريقة التي تدار بها الأمور انتقل حالياً إلى محتوى التدابير الواجب القيام بها لتلقي الصدمة.

 

رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، يواجه الآن، على الصعيد الداخلي، انفراط عقد تحالف سلطته في الوقت الذي واجه مشروعه في التمدد الجنوبي، على الصعيد الخارجي، عقبات كبيرة غير متوقعة. ففي مصر تفاجأ بالسعودية التي اعتبرت الإخوان عدواً تاريخياً داخلياً لها. وبدلاً من تذويب وزن الجيش في السلطة من أجل إحكام القبضة على السلطة هناك، عملت السعودية على تعزيز تحالفها مع هذا الجيش من أجل تفشيل الإخوان وخطة وضع اليد التركية. وأما سوريا التي لم يسقط نظامها خلال أسابيع، كما كان متوقعاً من الجهة التركية، فقد انتقل همّها وهموم إرهابها إلى الداخل التركي، على حد قول الرئيس التركي نفسه، أثناء زيارته الأخيرة لإيطاليا.

 

المأزق التركي الداخلي انفجر في ساحة تقسيم وتواصل في قضية الفساد، التي عمل أردوغان على طمسها بالوسائل ‘الشرقية’، واستكمل اليوم بالإنقسام الحاد بين حزب ‘الحرية والعدالة’ وجماعة ‘الحشاش’ فتح الله غولين. أردوغان يرى في هذه المعركة ‘معركة حياة او موت’ لأنها تجري بين الدولة وبين ‘الدولة الموازية’. في السابق كانت الدولة، بحسب أردوغان، تواجه دولة ضمن الدولة أما اليوم فهي موازية. هجوم عنيف وتناحري مع حليف سابق يملك من الوزن الإجتماعي في تركيا ما تمتلكه مدارسه الإسلامية التي تغطي تركيا وتفيض.

 

كثر الأعداء على الرجب الطيب. تناقضات مع الأميركي حول رئيس مخابراته وادواره المتناقضة في قضايا الإرهاب. ومع الإسرائيلي حول قضايا غير واضحة. مع السعودية حول كل شيء. مع الروسي حول الصواريخ وسوريا ودول الشرق السوفياتية سابقاً.

 

مع السوري الذي لم يسقط. مع الأكراد في الداخل وعلى الحدود. مع الدولة العميقة السابقة ومع الدولة الموازية. كثر الأعداء إلى درجة دفعته للذهاب إلى خصمه التاريخي، إلى إيران، طالباً يد العون.

 

لسنا نحتاج إلى من يوضح لنا أن اتفاقاً تركيا-إيرانياً لا يتضمن موقفاً مشتركاً من سوريا لن يعمًر طويلاً. كما أنه ليس من الصعب التكهن بأن التنازل في هذا الملف سوف ينعكس تناقضات أخرى جديدة في الضفة الأخرى لتحالفات التركي السابقة. الوضع صعب إلى حد دفع رئيس الجمهورية التركي، صديق أردوغان ورفيقه، ليأخذ مسافة منه ومن سياسته. فها هو، خلال زيارته الرسمية لإيطاليا في أواخر الشهر الماضي، بدأ ينسحب من معركة انتقاد الصحافة العالمية واتهامها بالمؤامرة.

 

وها هو يستنكر بكلمات بالكاد دبلوماسية قمع الحريات الصحافية والتعبير عن الرأي وعدم محاسبة مسؤولي الفساد. معروف أن خلافات بالرأي تعتمل منذ زمن بين الرئيس غول الذي أسس حزب الحرية والعدالة وبين رجب طيب أردوغان لكن الملاحظ اليوم أن هذا الخلاف بدأ يتخطى خلافات الرأي في التنفيذ ليأخذ شكل الخلاف الأيديولوجي. فهل يصل إلى تهديد تماسك الحزب نفسه خصوصاً على أعتاب انتخابات محلية في الشهر القادم؟ معارك ‘الحياة أو الموت’ ليست من شيم الدول إجمالاً ولا من شيم الدول الحديثة على كل حال. هكذا فهم الرئيس عبدالله غول المسألة فأخذ يبتعد عن مدرسة في الحكم لم تتعود دفع ثمن ما خسرته جراء مراهناتها السياسية البائسة. من هنا ربما قوله: ‘كنا بالماضي ننعم بوضع ممتاز ولدينا الكثير من الأصدقاء. أما اليوم فلقد صرنا بوضعية نحتاج فيها إلى جمع أوراقنا وإيجاد الحجج لنقنع الآخرين بضرورة مصادقتنا’.