سياسة الدين وأوهام التجديد |
الجمعة, 15 أغسطس 2014 21:09 |
د. السيد ولد أباه نقرأ هذه الأيام في الصحافة الغربية مقالات وتحليلات كثيرة حول الجذور العقدية والدينية للإرهاب «الإسلامي » الذي بلغ حده الأقصى في إمارة داعش التي أعلنت دولة الخلافة وتمددت في مناطق واسعة من العراق وسوريا. الفكرة السائدة في هذه التحليلات هي تفسير الإرهاب الأصولي بجذور مباشرة في التقليد الإسلامي من حيث المرتكزات العقدية والمعايير الفقهية والقيمية، مما ينتج عنه القول إن التشدد والعنف ليسا من الانحرافات والانشقاقات عن التقليد الديني وإنما هما من صلب النسق الديني ومتعلقاته الثابتة. ليس من همنا الدخول في سجال فكري حول هذه الاتهامات الموجهة للدين، وهي كما هو معروف، هشة ومتهافتة، وترجع إلى الأدبيات الاستشراقية الكلاسيكية المستهلكة، (وبذا تكتسي دلالتها الراهنة من طبيعة توظيفها في السياقات القائمة)، وإنما حسبنا الوقوف عند نمط المقاربة الإسلامية السائدة لمعضلة التطرف الديني التي لا خلاف حول الإقرار بخطرها، وإنْ اختلفت محددات تشخيصها.
ما نريد أن نبينه أن الخطابين التحديثي النقدي والإصلاحي التجديدي يتفقان عموماً في إرجاع أساس الانحراف إلى جمود وانغلاق المسلك الديني التقليدي، وإن اختلفا في سقف المقاربة النقدية والبدائل النظرية: القطيعة التأويلية والمراجعة الجذرية، أو تجديد أدوات النظر، وآليات القراءة والتنزيل. وإذا صرفنا النظر مؤقتاً عن الخطاب التحديثي النقدي، الذي يتوزع إلى مذاهب وطرق شتى تتباين أشد التباين في موقفها من المرجعية الدينية نفسها، أمكننا القول إن الخطاب الإصلاحي التجديدي تمحور في العقود الأخيرة حول مشروعين كبيرين: إعادة بناء المنظومة الأصولية من المدخل المقاصدي، وإعادة ترميم المدونة الفقهية في صلتها بالواقع والمتغيرات المجتمعية والكونية الراهنة. تمحور المشروعان حول تيار الإسلام السياسي عبر منظومتين مؤسسيتين رفعا شعار الاستقلالية والرصانة العلمية هما: معهد الفكر الإسلامي الذي تأسس في أميركا وفتح فروعاً في كبريات العواصم العربية والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي توزعت أنشطته الكبرى بين قطر وتركيا والبلدان الأوروبية، حيث أنشأ مجلساً خاصاً للإفتاء في بلدان المهجر. أما مشروع تجديد المنظومة الأصولية، فقد نزع منذ بدايته إلى هدفين أساسيين هما: تحويل الأطروحة المقاصدية إلى مرتكز الرؤية الكونية الإسلامية واعتمادها إطاراً تصورياً منهجياً جديداً لإعادة صياغة وبناء المنظومة الأصولية الكلاسيكية. بخصوص الهدف الأول، يتعين التنبيه إلى أن فكرة المقاصد حولت من مبحث أخلاقي وقيمي كما بلورها العز بن عبد السلام ثم الشاطبي إلى فلسفة نسقية متكاملة تغطي التصور الإسلامي الشامل من خلال عملية تركيب واسعة دمجت نظرية الضرورات الخمس (التي تعود للجويني والغزالي) في المفهوم المقاصدي، وهي في أصلها داخلة في مباحث التعليل من القياس، كما ذهبت في الآن نفسه إلى تمديد معنى المقصد من دلالة الحكمة والروح إلى معنى رؤية العالم وفق المنظور التأويلي المعاصر. وبخصوص الهدف الثاني، يتعين التنبيه إلى أن المدونة الأصولية نقلت من غاية استنباط أحكام الشرع من النص عبر آلية القياس، التي هي محور العمل الأصولي إلى نوع من فلسفة الدين في جانبيها: تأويلية النص ومرامي العمل. والواقع أن حصيلة هذا المجهود التجديدي للمدونة الأصولية ظل هزيلاً، لم يتجاوز ترميم النسق التقليدي دون استثمار آفاقه الدلالية وإمكاناته النظرية والعملية الخصبة التي توقف عندها الجيل الأول من إصلاحيي عصر النهضة: محمد عبده والطاهر بن عاشور ومصطفى عبد الرازق.. اكتفى التجديديون بصياغات لفظية ومصطلحية عديدة لأطروحة الضرورات والمقاصد، ولاكوا دون انقطاع أفكار الشاطبي بتحميلها مضامين لا علاقة له بها، في حين قصروا عن تحقيق مشروعهم التأويلي نتيجة للقصور الفادح في الإطلاع على الأدبيات الفلسفية والإنسانية التي تأسست عليها المسالك التأويلية المعاصرة (رغم محاولات عبد الوهاب المسيري التي رعاها معهد الفكر الإسلامي واعتبرتها مجموعات الاسلام السياسي فتحاً جديداً). أما مشروع البناء الفقهي الجديد الذي تقاطع بقوة مع المشروع المقاصدي، فقد أريد به سد ثغرات قوية في خطاب الإسلام السياسي الذي عانى منذ بدايته من نقص فادح في الدراسات الفقهية، كما شكلت فكرة إنشاء اتحاد عالمي للعلماء محاولة لاستيلاء تيار الإسلام السياسي على الحقل الديني بكامله. تمحور الجانب العلمي من المشروع في أنماط جديدة من الفقه أطلق عليها فقه الأولويات وفقه الأقليات وفقه الموازنات.. وهي تعبيرات تحمل دلالة التجديد الجزئي في قضايا الواقع المطروحة من خلال آليتين: استثمار أدبيات الخلاف الفقهي في التوصل لحلول عملية لمستجدات مطروحة لا يمكن ضبطها بالأقوال المشهورة في المذاهب السُنية المعتمدة (مثل التعامل بالبيوع الفاسدة في دار الكفر واحتفاظ الأوروبية المعتنقة للاسلام بعلاقة الزوجية مع زوجها غير المسلم..) والتوسع في مقاييس التنزيل العملي للنص على الواقع بما يراعي تعليق تطبيق الحكم دون إلغاء مرجعيته الشرعية الناظمة. ومن نافل القول إن مشروع انتزاع الإسلام السياسي لمرجعية العمل الفقهي فشل بعد اتضاح الأهداف الحقيقية للاتحاد الذي ترأسه القرضاوي وشكل أحد أجنحة المنظومة «الإخوانية» العالمية، في حين كانت حصيلته العلمية محدودة وبسيطة لا تحمل تجديداً ولا اجتهاداً إبداعياً. حاصل الأمر، أن الاتجاه التجديدي الإصلاحي الذي اختطفه تيار الإسلام السياسي باسم ترشيد الصحوة وبناء الممارسة النظرية المستقلة وتجديد الدين أخفق على الجبهتين: تجديد التقليد الديني من الداخل وإصلاح النسق الديني في بنياته التأويلية والمعيارية، ولذا لا مجال للتعويل عليه في محاربة التطرف والتشدد الديني كما يظن أحياناً. لقد أشار وائل حلاق الباحث الكندي (من أصل فلسطيني) في دراسة مهمة حول جذور العنف الديني في الإسلام إلى أن أحد الأسباب الرئيسية للإرهاب «الإسلامي» هو انحسار دور الفقيه التقليدي والمنظومة الفقهية الكلاسيكية التي كانت توفر العدة التأويلية للجماعة المسلمة، مما ولد حالة اغتراب حادة عمقتها المحاولات التجديدية المأدلجة العقيمة والضعيفة علمياً. بهذا المعنى تكون التجديدية المذكورة من الشرايين المغذية للتطرف الديني بدلاً من أن تكون من وسائل محاربته.
* نقلا عن “الاتحاد” الإماراتية |