الاحتباس الثقافي |
الجمعة, 26 ديسمبر 2014 01:30 |
سعيد يقطين في البلدان المتطورة، حيث الرأي العام الثقافي والاجتماعي منظم، وحيث المجتمع المدني مهيكل على قواعد فكرية وحضارية، وحيث الحكومات ممثلة للشعب لأنه صوَّت عليها، يخرج المواطنون في تظاهرات ومسيرات ينددون فيها بالحيف والظلم حيثما وجدا. فتجدهم يحتجون على سياسات بلدانهم حين تتكالب لشن عدوان أو هجوم على بلد معين خدمة لمصالح تتعارض مع القيم الإنسانية، أو أنهم يخرجون منددين بالحرب التي تخوضها إسرائيل على غزة، كما أنهم يعبرون عن وجودهم حين يتعلق الأمر بالوقوف في وجه الآلة الرأسمالية المتوحشة التي تدمر كل شيء، يتعارض مع مصالحها. ولعل المسيرات التي شهدتها البلدان المتطورة ضد «العولمة « أو «لاحتباس الحراري» خير شاهد على ما نرمي إليه، حيث نجد هيئات ومنظمات تساهم في التعبير عن رأيها ومواقفها بشكل سلمي وحضاري. لكننا في البلاد العربية والإسلامية لا نجد مثل هذه المسيرات والمظاهرات إلا حين يتعلق الأمر بقضايا مصيرية تهم البلاد، ويكون عليها إجماع من لدن الجميع، والتي ترخص لها بعض الحكومات العربية حين تكون عندها مصلحة عامة في ذلك. أما الخروج في مظاهرات للتنديد، أو للتعبير عما يمس البشرية جمعاء، فليس هذا من اختصاصات الجمعيات الثقافية والمجتمعات المدنية عندنا. وهذا ما أسميه «الاحتباس الثقافي». لا شك أن القضايا التي تحاصرنا في القوت اليومي، وفي قضايا الأمة المصيرية المختلفة، لم تترك لنا مجالات للتظاهر حول مسائل تتعدى حدود أوطاننا، أو الالتفات إلى قضايا عامة تمس الإنسانية برمتها، بل إن قضايا تتصل بالمسلمين أو دول العالم الثالث لا تهز الرأي العام لدينا. ويكفي أن نذكر ما وقع في بورما، أو الحرب على أفغانستان أو التدخل في الصومال. أما الخروج من أجل الحفاظ على البيئة، أو ضد الاحتباس الحراري، أو استنزاف الثروة المائية، أو ما شاكل هذا من المسائل (النفايات النووية)، فما زلنا بعداء عن الانخراط الجماعي فيها، والنظر إليها على أنها جزء من مشاكلنا الخاصة. مع توالي الاضطرابات والمشاكل، مع ما عُرف بالربيع العربي، بات التنديد والتعبير عن الرأي الجماعي في مختلف القضايا التي تمس الوطن العربي شبه معطل، وكأن المسيرات والمظاهرات التي حملت الربيع العربي، وهي تندد بالفساد في مختلف صوره، لم يبق لها أي مسوغ ، أو أنها أعطت الدروس لمن يريدون الجهر بمواقفهم بأن عليهم «الدخول» في سوق رؤوسهم، وأن الواقع الذي كان أهون، وأحسن من الواقع الذي يحلمون به، فكان أن انتهينا إلى ممارسة «الاحتباس الثقافي» ليس فقط على مستوى العالم الخارجي، بل أيضا على المستوى الداخلي (ما يجري في العراق ـ سوريا ـ ليبيا ـ اليمن). فبات التفرج على ما يجري لا يختلف عن التفرج في مقابلة لكرة القدم، بل إن الكرة تدفع أحيانا إلى ممارسة «العنف» الذي يجعل مباريات تجري بلا جمهور؟ وهذه صورة من صور فهمنا للتظاهر والتجمهر. ما يزال في متخيلنا الثقافي الذي هو وليد سياسة الكر والفر أن «التظاهر» و»التعبير عن المواقف» الجماعية المطلبية، لا يمكن أن يكونا إلا بتكسير الحافلات والسيارات، وتهديد الأمن العام، من لدن منظمي المسيرات. كما أن السلطة تظل ترى في هذه المظاهرات مناسبة لإثارة الشغب والفتنة، ولذلك فهي تتهيأ لها، إذا ما رخصت لها، باتخاذ اللازم من الصرامة والعنف. أليس هذا مظهرا من مظاهر «الاحتباس»؟ تجري المظاهرات في الدول المتقدمة، بالموسيقى، والضحك، وينشط معدو الأطعمة السريعة وسط المظاهرات، ويكون التواصل بين الناس، وتصل الرسائل المراد إبلاغها إلى المسؤولين بدون مشاكل. وما يجري في وطننا العربي، هو ما يقع في إسرائيل نفسه. فكلما هب الفلسطينيون للتظاهر، تعاملت إسرائيل مع سلوكهم بأنه «انتفاضة»، ولم تكن النتيجة غير عد الضحايا والمصابين. إن فهم التظاهر والتعبير الجماعي عن الرأي بهذه الكيفية هو من بقايا ذهنية تقليدية، سواء لدى المطالبين بالحقوق، أو المعبرين عن موقف، من جهة، أو من لدن السلطات، من جهة أخرى. وبسبب ذلك تظل العلاقات أبدا متوترة، وكلما ازداد التوتر كان الانفجار، فمتى سيرتقي المجتمع السياسي والمدني، إلى إيصال الرسائل المراد إبلاغها بدون أن تكون لذلك آثار مأساوية على المجتمع؟ إن التظاهر بمعناه التقليدي الذي كان، بات مع الوسائط المتفاعلة يتخذ صورة أخرى. فالتعليقات الساخرة والعنيفة على الأحداث «الساخنة»، صارت تتخذ معنى التظاهر التقليدي. لكنها تظل، على وجه الإجمال، تتخذ صورة النكات التي كانت تنتشر قبل ظهور هذه الوسائط، والتي كانت الشعوب والجماعات تتخذها وسائل للتعبير عن نفسها، بواسطة الضحك والسخرية المرة، ما دامت عاجزة عن فعل غير ذلك، في ظل شروط أخرى. هناك مظهر آخر لهذا الاحتباس الثقافي، وهو ما نلمسه في إبداعنا الأدبي ودراساتنا النقدية والفكرية. ويتمثل في عدم الانخراط في القضايا التي تهم الإنسانية جمعاء.. إن عدم تفكيرنا في ما يهم الإنسان بصفة عامة يجعل تفكيرنا قاصرا عما يهمنا، كما أنه يجعل طرق تعبيرنا تقليدية ومتخلفة. |