فى هذه اللحظة التى تحملُ فيها يدى المصريةُ قلمًا؛ لأكتبَ لكم هذا المقال، ثمّةَ يدٌ مصريةٌ طيبةٌ تحملُ فأسًا تَفلَحُ الأرضَ لتُخرجَ من طيّباتِها ثمرًا وشهدًا للجائعين، وثمّةَ يدٌ مصريةٌ كادحةٌ أخرى تحملُ حجرًا تُعشِّقُه فى حجرٍ لتبنى مدرسة وبيتًا ومصنعًا ومستشفى، وثمّة يدٌ مصريةٌ تمسكُ الطبشورَ وتعلّم الصغارَ فى فصل، وأخرى تُديرُ ماكينةً فى مصنع. وهناك، تحت وهج الشمس، على حدود الوطن الشريف، ثمّة يدٌ مصريةٌ مُلوحةٌ بالهجير، شريفةٌ عفيةٌ، تحملُ سلاحًا تذودُ به عن شرف مصرَ العزيز فى سيناء وفى العريش وفى الشيخ زُويّد وفى رفح. وفى خارج الوطن العزيز، فى أقصى أقصى الحدود الغربية للقارة الأفريقية، ثمّة يدٌ مصريةٌ فناّنةٌ تحمل عصا معدنية نحيلة لتصنع بها مجدًا جديدًا يُضافُ إلى أمجاد مصر الخالدة.
العصا: فى يِد المايسترو المصرى المثقف «راجح داوود»، والزمانُ: هذه الأيام، والمكانُ: دولة موريتانيا العربية. حمل المايسترو عصاه بين أصابعه، وفى رأسه حمل علمَه وفنَّه، وفى قلبه خبأ مصرَ الطيبةَ، ثم حزمَ حقائبَه واستعدّ للطيران. التقيتُه فى مطار القاهرة الدولى الأسبوعَ الماضى. كنتُ فى طريقى إلى بغداد للمشاركة فى مهرجان «المربد» الشعرى بمدينة البصرة، وكان فى طريقه للتكريم فى العاصمة نواكشوط. صافحتُه بحبٍّ وفخر، قبل أن أطيرَ شرقًا، ويطيرَ غربًا إلى تلك البلاد السمراء النائية؛ ليقود مترونوم أوركسترا الفرقة الموسيقية العسكرية الموريتانية ويُدرّبهم على عزف المقطوعة الموسيقية الشجية التى ألّفها موسيقارُنا المصرى المُلهَم، لتُصبحَ السلامَ الوطنى الرسمى لجمهورية موريتانيا. قام داوود بتلحين النشيد الجديد، الذى اعتمده دستورُ دولة موريتاينا فى تعديله الأخير ٢٠١٧. فى قاعات البروڤات، بأروقة «دولة الأوبرا المصرية»، عزف أوركسترا القاهرة السيمفونى ذلك اللحنَ الجميل، وصدح بكلماته كورال الأوبرا المصرية على مدى ثلاثة أسابيع، حتى استوى على عود نغماته نشيدًا شجيًّا منضبط النغمات يسرُّ السامعين، قبل أن يسافرَ اللحنُ كاملاً بهيًّا إلى دولة موريتانيا، لتعتمده نشيدَها الرسمى، يشدو به الأطفالُ فى مدارسهم، والجنودُ فى ثكناتهم، والقلوبُ فى نجواهم للوطن. وبالأمس، عاد موسيقارُنا المصرى إلى وطنه مُكّللاً صدرُه بوسام «فارس»؛ الذى قلّدته إياه الدولةُ الموريتانية تكريمًا على فنّه الموسيقى الرفيع. وكان الاختيارُ قد وقع على موسيقارنا المصرى ليضع موسيقى نشيدهم الوطنى تحت مِظلّة التعاون الدبلوماسى الثقافى المصرى-الموريتانى. هكذا يمتدُّ حبلُ الموسيقيين المصريين الذين مَوْسقوا الأناشيدَ الوطنية الرسمية لدول عربية، لتتأكد فرادةُ مصر الفنية جيلًا وراء جيل. فى عام ١٩٦٣، وضع الموسيقارُ المصرى «محمد فوزى» موسيقى النشيد الوطنى الجزائرى الذى كتبه «مفدى زكريا»، شاعر الثورة الجزائرية، ويقول مطلعُه: «قسَمًا بالنازلاتِ الماحقاتِ/ والدماءِ الزاكياتِ الطاهراتِ/ والبنودِ اللامعاتِ/ الخافقاتِ/ فى الجبالِ الشامخاتِ الشاهقاتِ/ نحن ثُرنا/ فحياةٌ أو مماتْ/ وعقدنا العزمَ أنْ تحيا الجزائر/ فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...».
وفى مطلع العام الجديد ٢٠١٨، وضع موسيقارُنا المصرى «راجح داوود» نشيدًا وطنيًّا جديدًّا، كتبته مجموعةٌ من شعراء موريتانيا يقول مطلعه: «بلادَ الأُباة الهُداة الكِرام/ وحِصنَ الكتابِ الذى لا يُضامْ/ أيا موريتانِ ربيعَ الوئامْ/ وركنَ السماحةِ ثغرَ السلام......».
تحيةَ احترام وفخرٍ بصديقى المايسترو الجميل «راجح داوود»، وتحيةَ تقدير لعصاه الموسيقية الساحرة التى أبدعت لحنًا عذبًا يجمع بين الحماسةِ والعذوبة والرُّقى. وتحيةً متجددة لكِ يا مصرُ الجميلة يا أمَّ العظماء على مرّ العصور.
twitter:@fatimaNaoot