تعرض المفكر والباحث الموريتانى المشهور الاستاذ محمد المختار الشنقيطى إلى عملية سطو كبيرة من طرف أحد الباحثيين العرب، وذالك في مايتعلق بموضوعه الأخير والمميز عن حسن الترابى، وقد علق الدكتور الشنقيطى على صفحته على الفيس بوك بعد ارفاقه رابط النص الأدبى المعتدى: "أخي د. علاء لو قلت إن "دراستك" مقتطفات من رسالتي،متقولة حرفيا ومبتورة عن سياقها، وفصلت بين كلامي -وهو متن الدراسة- وكلامك -وهو مقدمتها وخاتمتها- لكان ذلك أليق بك وبالأمانة العلمية
وأنت بحمد الله قادر على الإنفاق مما آتاك الله ولست بحاجة إلى نقل كلامي والإيحاء بأنه "دراسة" لك.
لا يصلح لهذا الموقع الموقر الترويج لعمل غير أمين.
الله المستعان"
رد المعنى المتهم بالسطو علاء الدين ال رشي في تعليق بالقول: : اشكرك لكن انا بينت في صلب المقال انها دراسة تعتمد على رسالتكم كما هو مشار وعلى كل ارسلت الى ادارة الموقع لحذف المقال منعا من اللبس
وكتب الباحث المعتدي اوالمتهم تحت العنوان التالى: "
الترابي بعيدًا عن فوضوية الوعظ والغش الثقافي وردًّا على الشيخ وجدي غنيم"
حزَّ في قلبي ذلك الأسلوب غير العلمي، الذي انتهجه الشيخ وجدي غنيم والذي يكتفي بتقرير المسائل وإلزام السامع بقبولها من خلال وعظية مطلقة تتمسح بالغيرة والخوف على محارم الله.
كنت آمل من الشيخ وجدي غنيم أن يحلق بحواره مع المرحوم الدكتور حسن إلى مستوى المحاججة العقلية والنقلية، وسرد أدلة الترابي ودحضها بديلًا عمليًا وأخلاقيًا عن التكفير والتشهير، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى جولات معرفية تعلمنا الحراك الذهني لا الركود ولا التطاول ولا امتهان الكرامات.
ترى كم سيكرس الشيخ وجدي من قيم نبيلة نفتقدها اليوم في ظل الهرج وهدم المراجع لو ناقش وحاجج ولم يتهجم ويشمت؟
ترى بدلًا من جعل كلمته منبرًا نقائصيًا وجسرًا لكل ثرثار قناص لكل منقصة فاتحًا الباب على مصراعيه لتكفيرِ أهل التوحيد وتضليلِهم وتبديعِهم.
كان الترابي يرحمه الله تعالى على إيمان بالعلم وبالمعرفة على درجة عميقة ومما يذكر في هذا السياق ما قصه الشيخ القرضاوي عندما قال للترابي لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه، حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم. فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش، وإنما نهتم بالشعب. وعندنا أن نكسب معلمًا في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش. قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني، وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها.
2
امتزج الخلاف الفقهي بالسياسي في آراء الترابي، وتدخلت الصراعات والتحزبات في الحكم على الرجل وتصفيته أيضًا.
تعود صلتي الفكرية بالشيخ حسن الترابي إلى خمس عشرة سنة تقريبًا، وقد عملت بموافقة منه رحمه الله ومع بعض المقربين منه على جمع تراثه وأعماله الفكرية مما أتاح الاطلاع على فقه الترابي عن مقربة، والتمعن في سياق أقواله ضمن رؤيته الفكرية العامة.
نظرة عامة على فكر الشيخ الترابي يرحمه الله تعالى
يعاب على الشيخ حسن رحمه الله فتحه جبهات فكرية دون أي حكمة أو التفات إلى هيبة متعارف عليها، أو مراعاة للعقل المحاصر والمرهون للناتج السابق.
مما شجع الكثيرين على التهجم عليه وهنا كما يقول د. محمد بن المختار الشنقيطي (أخطأ الدكتور الترابي في حق نفسه أولًا، ثم في حق مستمعيه وقرائه بعد ذلك…
فـالترابي رحمه الله كان يقدم نتائج قراءاته الواسعة واجتهاداته الجريئة دون بيان لمقدماتها، فيلقي المسائل إلقاءً من غير توضيح لمواردها ومصادرها، ويقذف بالآراء الجريئة المثيرة للجدل دون توثيق لها من كتب التراث الإسلامي، رغم أن أكثر آرائه التي تبدو للقارئ غير المطلع بدَعًا مستحدثة لها أصول في نصوص الشرع، وسوابق من آراء المتقدمين من علماء السلف…) اهـ.
غالب النصوص الفكرية والفقهية تعكس عقلية ميالة إلى التحرر وطلب الحق، فالرجل لديه مكانة علمية معروفة وقدرة ثقافية على رصد المسائل ومعرفة جذورها وتجلياتها وتقرير الأصيل من الدخيل بحكم اطلاعه الواسع على المعارف الشرعية والحقوقية.
دخل الشيخ يرحمه الله تعالى في سجال وحروب مروعة ضد الركود السائد الذي يقدس التماوت الفكري ويرهب الحياة الاجتهادية وتوليد النصوص والمعاني الإبداعية، ولكن الشيخ رحمه الله لم يخاطب أهل التقليد بلغتهم ولم يعمل على ربط مقولاته بالمراجع التراثية، ولو فعل ذلك لعصم نفسه من الانتقادات التي وصلت إلى حد إخراجه من الملة.
أسهم الترابي في جلب العوام عليه وطويلي اللسان لرشقه عندما اجتهد ولم يلتزم التوثيق.
الترابي وآراؤه الفكرية
اعتمدت في دراستي هذه على رسالة علمية طبعتها لأخي الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي بعنوان (آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير) وقد آثرت أن أستعرض بعض الآراء وليس كلها ومن طلب الاستزادة فليعد للرسالة المذكورة.
إسقاط الخمار عن المرأة
ومن هذا الصنف القول بأن الترابي لا يرى وجوب الحجاب (بمعنى غطاء الرأس)، في حين أن الرجل لم يقل سوى أن القرآن الكريم لا يستعمل لفظ الحجاب بمعنى الخمار، وهو يقصد أن الواجب على عامة المؤمنات هو الخمار أي غطاء الرأس، وليس الحجاب بالمصطلح القرآني الذي يراد به الساتر المادي بين الرجال والنساء، وقد استُعمل في القرآن الكريم ضمن الحديث عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. فكان كلام الترابي في هذه المسألة تحليلًا لغويًا لا فتيا شرعية، وهو كلام صحيح ودقيق.
إمامة المرأة الرجال
وخذ مثلًا قضية إمامة المرأة الرجال. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل جوازها في بعض الظروف فيقول: «جوَّز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين، فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا. وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة. وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة»([1]) ويقول ابن تيمية: «قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد. وفي سائر التطوعات روايتان»([2]). وهذا الإمام النووي يقول: «قال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري»([3]). وهذا ابن رشد يقول: «اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال، واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك. وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق»([4]).
قتل المرتد وقتاله
مثال آخر من مسائل هذا القسم من المآخذ التي أُخذت على الترابي، هو رفضه قتل المرتد. ومن حق الترابي أن يجتهد في موضوع عقوبة القتل على الردة، وله في ذلك مستند من آيات القرآن الكريم، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين. فقد أجمع الصحابة على قتل المرتد المحارب، كما هو واضح من حروب الردة التي قادها الصديق ضد المرتدين عن الإسلام الخارجين على سلطة الخلافة الراشدة. أما المرتد غير المحارب، فقد صح عن بعض الصحابة منهم أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ما يفيد قتل المرتد المسالم. ففي البخاري: «… زار معاذ أبا موسى، فإذا رجل مُوثَق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه»([5]). وفي المقابل صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يفيد عدم قتل المرتد المسالم، وهو واضح من قول عمر عن رهط من بني بكر بن وائل ارتدوا والتحقوا بالمشركين وقتلهم المسلمون في المعركة: «لأن أكون أخذتهم سِلْمًا كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء، قال: [أنس بن مالك] فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتَهم سلمًا؟ قال [عمر]: كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن»([6]).
تنصيف شهادة المرأة
ومن مسائل هذا الباب تسوية الترابي بين شهادة الرجل وشهادة المرأة مطلقًا، خلافًا لما يدل عليه ظاهر آية الدَّين في سورة البقرة من التمييز بين شهادتيْهما في المال: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتُذكِّر إحداهما الأخرى»([7]). لكن وضع الآية ضمن سياق أعمَّ يظهر أن الأمر من موارد الاجتهاد. فالقول بأن تنصيف الشهادة حكم مُعلَّل بظروف الزمان والمكان في عصر النبوة، يوم كانت المرأة عديمة الخبرة في عالم التجارة والمال قولٌ وجيه.
وقد نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية كلامًا يميل فيه إلى هذا التعليل، إذ قال: «إن استشهاد امرأتين مكان رجل واحد إنما هو لإذكار إحداهما للأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط. فما كان من الشهادات لا يُخافُ فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل»([8]). صحيح أن ابن تيمية لم يسوِّ شهادة المرأة بشهادة الرجل في الأموال فيما نعلم عنه، لكنه فتح الباب للاجتهاد في ذلك إن دعت لذلك مصلحة أو اقتضته ظروف الزمان المتبدلة، إذ يقضي كلامه هنا أن زوال الخوف من النسيان وعدم الضبط – كما هو الحال في شهادة امرأة خبيرة بالمحاسبة وإدارة الأعمال مثلًا – يجعل شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل أو تفوقها.
وقد رفض الإمام محمد عبده ما ذهب إليه أكثر المفسرين الأقدمين من القول بالنقص في خِلقة المرأة ذهنيًا وعاطفيًا، وأن ذلك هو السبب في تنصيف شهادتها، فقال: «تكلم المفسرون فى هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات»([9]). فالشيخ عبده ربط الحكم بالظروف الاجتماعية المتغيرة، ولم يجعل علته أبدية.
زواج المسلمة من الكتابي
ولعل المسألة الوحيدة التي أغرب فيها الترابي جدًّا هي قوله بزواج المسلمة من الكتابي ابتداءً. وهو هنا يتعلق بأدلة نفي أكثر من تعلقه بأدلة إثبات، ويرى أن آية سورة البقرة التي تحرم تزويج المشركين والزواج منهم: «ولا تَنْكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا»([10]) لا تنطبق على أهل الكتاب، لأن القرآن الكريم لا يسمي أهل الكتاب «مشركين» في الغالب. كما يرى أن آية الممتحنة: «فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن»([11]) من العام الذي أريد به الخصوص لأنها جاءت في سياق الحديث عن الكفار الوثنيين من أهل مكة، ولا يدخل أهل الكتاب في مدلولها.
ولم أجد للترابي مستندًا قويًا في هذه المسألة تبرر مخالفته الفهم المتعارف عليه بين أهل العلم في هذا الباب. بل لا أشك في خطئه في استدلاليْه كليهما؛ فتعلقه بالتمييز في الاصطلاح القرآني بين المشركين وأهل الكتاب، وبين الكفار وأهل الكتاب لا يسعفه هنا، لأنه تمييز اصطلاحي فقط، والأصل اشتراكهم في صفة الشرك والكفر كما يقرُّ الترابي بذلك. وكذلك اشتراكهم فيما يترتب على ذلك من أحكام، إلا ما دل الدليل على اختلافهما فيه، مثل زواج الرجل المسلم من المرأة الكتابية. وقصر «الكفار» في آية الممتحنة على كفار قريش أو غيرهم من غير أهل الكتاب ادعاء يحتاج إلى برهان، وهو يقتضي أن تكون «ال» في لفظ «الكفار» هنا عهدية لا استغراقية، ولا دليل على ذلك من اللغة حسب ما أعلم.
ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في تعميم قوله تعالى: «لا هنَّ حل لهم ولا هم يحلون لهنّ» على جميع الكفار من وثنيين وأهل كتاب. وهو تعميم جدير أن يؤخذ به، خصوصًا وأن الآية كررت التحريم مبالغة وتأكيدًا. قال البيضاوي: «والتكرير للمطابقة والمبالغة، أو الأُولى لحصول الفُرقة والثانية للمنع عن الاستئناف»([12]). ومثله قول الألوسي: «قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) تعليل للنهي عن رجْعهن إليهم. والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول، والثانية لبيان امتناع ما يُستأنَف ويُستقبَل من النكاح»([13]). ولم تعلل الآية التفريق باحتمال الاضطهاد والفتنة في الدين، رغم أنه احتمال شبه متحقق. وهذا ما يؤكد عموم الآية في كل الكفار، وثنيين وأهل كتاب، محاربين ومسالمين.
رد الأحاديث الصحيحة
ومما أثار حفيظة البعض على الترابي رده بضعة أحاديث في البخاري ومسلم، وأكثر هؤلاء ممن اعتادوا الأجوبة السهلة على الأسئلة الصعبة، فأغلب أحكام الشريعة عندهم معلومة من الدين بالضرورة، وجلُّ النصوص محكمة, وجميع أحاديث الصحيحين ثابتة، ولم يترك المتقدمون للمتأخرين من قول. ولقد سمعت أحد هؤلاء يرد على الترابي قائلًا: «إذا قال مسلم إن الماء حرام فهو كافر، لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة»، فتعجبت من البون الشاسع بين هذا القول وبين قول الله تعالى: «ولكن من شرح بالكفر صدرًا»([14]). كما سمعت آخر يقول: «إن من رد حديثًا واحدًا صحيحًا فهو كافر» وهو لا يدري – على ما يبدو – أن العلامة ابن دقيق العيد جمع مجلدًا من الأحاديث الصحيحة، التي لم يعمل بها هذا الإمام أو ذاك من أئمة المذاهب الأربعة.
فليس رد حديث آحاد صحيح لاعتقاد مخالفته القرآن، أو مخالفته ما هو أصح منه من الأحاديث، بكفر ولا ذنب، بل هو عمل اجتهادي يلجأ إليه كل المجتهدين في معرض تعارض الأدلة وتواردها على نفس المحل. كما أن هناك فرقًا شاسعًا بين راد الحديث النبوي إنكارًا للرسالة وتكذيبًا بحاملها، وبين راد الأحاديث اعتقادًا بانتحالها وضعف نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس من ريب أن صحيحي البخاري ومسلم هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأن مجمل أحاديثهما صحيحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال صحة كل حديث أخرجاه، فقد رد عدد من الحفاظ أحاديث عديدة بنفس الأسانيد التي أخرجها بها البخاري ومسلم، منهم أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبو داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والترمذي، والعقيلي، والنسائي، وأبو نعيم، والدارقطني، وابن منده، والبيهقي، وابن الجوزي، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن القيم، والألباني… إلخ. وقد ضعَّف البخاري نفسه واحدًا أو اثنين من الأحاديث الواردة في صحيح مسلم.
رجوع المسيح وظهور الدجال
القسم الثالث قضايا اعتقادية خالف فيها الترابي الفهم المتعارف عليه، وأهمها إنكاره رجوع المسيح عليه السلام وظهور الدجال، وكلامه في عصمة الأنبياء. أما مسألة رجوع المسيح فإنكار الترابي لها تعلق منه بظواهر آيات قرآنية مثل قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: «ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد»([15]) فهو يرى أن البعدية المذكورة في هذه الآية تنفي ما ذهب إليه الجمهور من أن عيسى بن مريم لا يزال حيًا، وسيرجع في آخر الزمان. كما أن قوله تعالى على لسان عيسى: «وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا»([16]) يثير إشكالًا حول دفعه للزكاة إذا كان حيًا يرزق في السماء اليوم!
واعتمادًا على ظواهر الآيات رد الترابي أحاديث البخاري ومسلم حول عودة المسيح وظهور الدجال وألح على أن هذه الأحاديث أثر من آثار الثقافة المسيحية على التراث الإسلامي، تسربت إلى كتب الحديث دون وعي من أهلها، فقال في مقابلته مع الشرق الأوسط يوم 21/4/2006: «الأحاديث تقول يوشك أن ينزل عليكم عيسى ويفعل كذا، فأنا أصرف هذه الروايات إلى أثر الثقافة النصرانية، وأنها نسبت خطأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم”. وبمثل ما يقول الترابي قال العلامة المجدد محمد رشيد رضا من قبل، وكان أكثر تحديدًا وتفصيلًا فقال: «فنزول عيسى عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام بثها في المسلمين، وممن حاولوا ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار في تشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات» وزاد: «ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه. ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب، وكان يصدقه»([17]). وبمثل ذلك قال من المعاصرين محمد أبو زهرة ومحمود شلتوت والشيخ المراغي من علماء الأزهر. أما محمد الغزالي فقد نبه إلى نقطة مهمة، وهي أن القول بأن عيسى عليه السلام لا يزال حيًا في السماء، تحمل شيئًا من «شوائب الألوهية» في المسيحية([18]).
وقد توصل الشيخ رشيد رضا إلى أنه «ليس في الكتاب والسنة نص قطعي الثبوت والدلالة على نزول المسيح يوجب على المسلمين الاعتقاد بذلك، وإنما ورد في نزوله أحاديث اشتهرت لغرابة موضوعها وتخريج الشيخين لها، وأكثرها عن أبي هريرة، وهذه المسألة من المسائل الاعتقادية التي يُطلب فيها النص القطعي المتواتر»([19]).
عصمة الأنبياء عليهم السلام
ويدخل في هذا الباب كلام الترابي عن عصمة الأنبياء، فالذين يردون على الرجل لا يبدو أنهم يفرقون بين «عصمة البلاغ» و«عصمة التأسي»، ولا يميزون بين العصمة من الكبائر والعصمة من الصغائر. فلا ريب أن الأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله عز وجل، وبدون اعتقاد ذلك تسقط الثقة في الوحي، وعلى هذا القدر من العصمة لم يختلف اثنان من علماء الأمة، ولم يثر الترابي يومًا كلمة حول هذا الأمر. وأما عصمة التأسي، أي هل هم معصومون من فعل الذنب ابتداءً، أم معصومون من الإقرار عليه فقط، فهذا فيه جدل قديم منذ صدر الإسلام بسبب ظواهر الآيات الدالة على أن بعض الأنبياء ارتكبوا أخطاء أو أصابوا ذنوبًا. قال الشوكاني: «وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه»([20]).
والقدر المتفق عليه من عصمة التأسي أنه لا يتم إقرار الأنبياء على الذنب. قال ابن تيمية: «إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها [أي الذنوب]، وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يُقرَّ فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصد الرسالة ومدلول المعجزة»([21]).
ويرى الباقلاني من الأشاعرة، وبعض علماء المعتزلة، أن الأنبياء غير معصومين، لا من الصغائر ولا من الكبائر، بينما يرجِّح ابن تيمية أنهم معصومون من الكبائر لا من الصغائر، ويقول إن ذلك ما يقول به جلُّ علماء المسلمين من مختلف المشارب والمذاهب. قال ابن تيمية: «القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام. وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء يقولون أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول». وزاد ابن تيمية أن «أول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقًا وأعظمهم قولًا لذلك الرافضة [يقصد الشيعة]»([22]).
لقد استباح الشيخ وجدي غنيم الدكتور الترابي الذي وصفه القرضاوي بأنه (يتمتع بفهم دقيق، وحِسٍّ رقيق، وإيمان عميق، وعلم وثيق).
أما أنا فلن أقول إلا ما طلب الله مني: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].