خسرت الكثير من الاصدقاء، وكسبت اكثر من الاعداء، وربما عدت الى القائمة السوداء التي تضم المحظور دخولهم في مطار القاهرة، بعد رفع اسمي لبضعة اشهر بعد سقوط حكم الرئيس حسني مبارك الديكتاتوري الفاسد، كل هذا لانني كنت من القلائل الذين تجرأوا، وقالوا قبل ثلاث سنوات، على قناة شبكة “بي بي سي” الانكليزية، وكتبته في اكثر من مقال، ان ما جرى في مصر كان انقلابا عسكريا اطاح بحكم رئيس منتخب في عملية انتخابية ديمقراطية اتسمت بالنزاهة والشفافية، اختلفنا معه ومع الحركة التي ينتمي اليها (الاخوان المسلمين) او اتفقنا.
اعترف انني لم اندم، فما حدث فعلا كان انقلابا، عاد من خلاله المجلس العسكري الى سدة الحكم مجددا، ولو بطريقة التفافية ديمقراطية، ووجد دعما من قطاع واسع من المصريين الذين انقلبوا على صناديق الاقتراع ونتائجها، ووقفوا في خندق العسكر (لا يحبون هذا الوصف) ليس حبا فيهم، وانما خوفا من حكم الاسلاميين، وتمسكا بالدولة المدنية.
التقيت الاستاذ الراحل محمد حسنين هيكل في بيروت بعد الاطاحة بالرئيس مرسي ببضعة اسابيع تقريبا، وعاتبني بشدة لانني استخدمت توصيف الانقلاب، وعندما سألته في بيت السيد تحسين خياط، صاحب محطة تلفزيون “الجديد” الذي دعاني الى مأدبة غداء اقيمت على شرفه (هيكل) عن توصيفه لما حدث، قال رحمه الله “انها ثورة شعبية تصحيحية طبعا”، واكد، والكلام لهيكل، انه التقى الفريق اول عبد الفتاح السيسي، قبل قدومه الى بيروت بثلاثة ايام، واكد له، اي الفريق السيسي، الذي كان وزيرا للدفاع في حينها، انه لن يخلع البدلة العسكرية، ولن يترشح لانتخابات الرئاسة.
لا اعرف ما اذا كان الاستاذ هيكل قد غير رأيه في ايامه الاخيرة، واقتنع بأن ما جرى كان انقلابا، فلم التقيه حتى وفاته، سواء داخل مصر او خارجها، وكانت المرة اليتيمة التي زرت فيها مصر بعد حظر استمر 17 عاما تقريبا في اوائل حزيران (يونيو) عام 2013، اي قبل الانقلاب بشهر، التقيت خلالها بالرئيس محمد مرسي في قصر الاتحادية ظهرا، ودعيت الى العشاء في اليوم نفسه من قبل اعضاء في المجلس العسكري في نادي الضباط في مصر الجديدة، وكان من المفترض ان يكون الفريق السيسي من بينهم، ولكنه تغيب بسبب اجتماع طارىء دعا اليه الرئيس مرسي لبحث الخطط الاثيوبية لبناء سد النهضة، وتحويل مجرى نهر النيل، وهذه قصة اخرى، وخرجت من هذا العشاء بانطباع مؤكد بأن الخطة جاهزة، وايام الرئيس مرسي باتت معدودة.
***
عندما ارى اوضاع مصر الراهنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والنزيف الدموي الذي تعيشه القوات المصرية في سيناء، والانقسام الكبير الذي يسود البلاد حول مسألة “التنازل” عن جزيرتي “تيران” و”صنافير” للمملكة العربية السعودية، وغياب الاحتفالات بالذكرى الثالثة للانقلاب او الثورة (سمها كيفما شئت)، وانفضاض الكثيرين من الذين ايدوا هذه الثورة من النخبة المصرية عن الرئيس السيسي، وتراجعهم عن دعمه، مثل عمرو موسى، وحسن نافعة، وعلاء الاسواني، وحمدين صباحي، والقائمة تطول، تتعزز قناعتي بأنني لم اخطيء مطلقا في تحفظاتي واصراري على ان ما حدث كان انقلابا، وان مصر لا تسير في الطريق الصحيح والمأمول، وتحتاج الى مراجعات جدية شاملة.
وما يكرس هذه القناعة، ما قرأته في صحيفتنا “راي اليوم”، وصحف ومولقع مصرية اخرى، من آراء لبعض رموز الثورة المصرية التي ايدت “ثورة المجلس العسكري” مثل الدكتور ممدوح حمزة الناشط السياسي المعروف، الذي كان من اكثر المتحمسين للرئيس السيسي، واعترافه بأنه “غرر به”، وندم ندما شديدا على تصويته في الانتخابات للرئيس السيسي واعطائه، مع الكثيرين من رموز الثورة المصرية، تفويضا مفتوحا تحت عنوان محاربة الارهاب، وخيبة امل كبرى لانه لم يخلع البزة العسكرية مثل جمال عبد الناصر، والكلام ما زال للدكتور حمزة.
الرئيس السيسي قدم وعودا كثيرة للشعب المصري، ولكن ما تحقق منها ما زال محدودا، فالازمة الاقتصادية في ذروتها، رغم ضخ اكثر من ثلاثين مليار دولار من المساعدات الخليجية في الخزينة المصرية في العامين الماضيين، فالعجز في الميزانية العامة في الاشهر التسعة الاولى من هذا العام فقط يبلغ 35 مليار دولار، اما الدين العام فيصل الى حوالي 56 مليارا، ويرتفع بمقدار خمسة مليارات دولار سنويا، حسب آخر التقديرات الدولية.
ندرك جيدا ان الارهاب الذي تعيشه مصر، ويزعزع استقرارها، وينعكس سلبا على اقتصادها، بات من سمات منطقة الشرق الاوسط والعالم، ولا توجد دولة محصنة من ضرباته بما في ذلك اوروبا وامريكا، ولكن في الحالة المصرية الوضع مختلف فرغم سياسة القبضة الحديدية المستخدمة ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” في سيناء، وتدمير جميع انفاق قطاع غزة، واغراق الحدود معه بالمياه، والتنسيق العسكري الكامل مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، وتعديل الملاحق الامنية والعسكرية في اتفاقات كامب ديفيد بما يتيح للقوات المصرية حرية الحركة، ما زالت النتائج في الحرب على الارهاب متواضعة.
***
الرئيس السيسي وبعد ثلاث سنوات من توليه الحكم فعليا، اثبت انه ليس جمال عبد الناصر الجديد، كما انه ليس انور السادات ايضا، والتحديات التي تواجه حكمه ضخمة جدا، والقبضة الامنية السائدة حاليا، وما تفرزه من ممارسات، مثل مصادرة الحريات، وتكميم الافواه وقتل باحث ايطالي، او ترحيل مذيعة من اصل لبناني، واصدار مئات الاحكان بالاعدام على قيادات اخوانية من الصفين الاول والثاني، وآلاف الاحكام بالسجن المؤبد، وحجز اكثر من عشرين الفا من المتهمين خلف القضبان، معظمهم دون محاكمات، ناهيك عن كونها عادلة او غير عادلة، وهي ممارسات توحي بأن هناك ازمة، وحالة من الاحتقان تتضخم، وفوق هذا وذاك، سوء ادارة للوضع.
مصر تحتاج الى حوار بين مختلف الوان الطيف السياسي المصري، للتوصل الى مصالحة وطنية شاملة، والاحتكام الى صناديق الاقتراع في انتخابات حرة نزيهة، وباشراف المجلس العسكري تماما مثلما حدث بعد ثورة 25 يناير.
لا يعيب الرئيس السيسي اجراء مراجعة شاملة لكل محطات المرحلة الماضية، والتشاور مع العقول الوطنية المصرية المستقلة، وما اكثرها في مصر، بحثا عن مخارج من هذا الاحتقان، وبما يؤدي الى تجنب الانفجار الذي يخشاه الكثيرون ونحن منهم، وانقاذ مصر من الانهيار.
عبد الباري عطوان