يعرف التربويون البيئة الدراسية أو المدرسة بأن من خصائصها كونها "بيئة صاهرة" وهو ما يعني أنها فضاء لاختفاء التراتبيات والطبقيات المبنية على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو الوضع المالي والاقتصادي، غير أن المتتبع للتمدرس في موريتانيا يدرك بجلاء الاختلالات الكبرى التي عصفت بالعملية التربوية وأفرغتها تماما من مضمونها بوصف التعليم بوابة لولوج الطبقات المعدمة والوسطى إلى مراحل أفضل زصعودها درجات على سلم التصنيف الاقتصادي و الاجتماعي حيث أصبحت المدرسة تنتج نفس الأسماء و الأسر كطبقة حاكمة بأمرها وقد كان سبب فشل المدرسة في خلخلة هذه البنيات التقليدية الهشة عدة عوامل تضافرت سواء كانت ذاتية أوموضوعية أو مخططا لها.
إن تذبذب النظام التعليمي بين الشعبة العربية و الفرنسية والتعريب المفاجئ وغير المدروس والمبني على قرارات مشاعراتية أكثر منها استراتيجية مدروسة أصاب التعليم في مقتل وأنتج أجيالا متناقضة في التوجهات والأفكار وخلف فوضى ليست البتة لصالح التعليم فمثلا أتذكر أستاذنا الذي كان يدرسنا مادة التاريخ والجغرافيا وهو أستاذ متمكن بلغة تكوينه (الفرنسية) ولكن فرض عليه أن يدرس هذه المادة باللغة العربية، وكان يستعين بي وأنا التلميذ الذي لم يتجاوز حينها السنة الثانية إعدادية لتعريب بعض المصطلحات ولتصحيح أخطائه النحوية و الصرفية والإملائية التي لا تنتهي والتي كانت تزعجني كثيرا!
ثم جاءت القطرة التي أفاضت الكأس من خلال فتح الباب لنمو سرطاني عشوائي للمدارس الحرة والمدارس الأجنبية التي نزح إليها أبناء الأغنياء لبقمى أبناء الفقراء في المدارس النظامية و التي أغرى مدرسيها الرواتب المحترمة التي تمنحها المدارس الحرة فحدثت أكبر هجرة لأهم الكفاءات التدريسية إلى المدارس الحرة وشهد التعليم النظامي إهمالا لا سابق له بسبب الرواتب الهزيلة وبسبب الساعات التي يقضيها معظم المدرسين في المدارس الحرة بحثا عن لقمة عيش كريم؛ وهذا خلق أيضا أجيالا غير متناغمة حيث ل المدرسة "بيئة صاهرة" بالعكس بل أصبحت "بيئة مميرة" بكسر الياء حيث اختفى ذلك الحوار الصامت بين مختلف الطبقات الاجتماعية وحلت محله الصور الجاهزة و النمطية؛ فالموسرمون يرون المدارس النظامية مجرد وكر لشاريع اللصوص وأبناء الهامش والفقراء يرون أن المدارس الحرة مجرد تكتل لأبناء الطبقة المخلمية الكسالى و الذين لا يجيدون إلا التهام الساندويتس ولعق ألبان "ياوور"...
إلى اللقاء.. يتواصل
----------------
من صفحة الأستاذ الشيخ نوح على الفيس بو