أشهرٌ قليلة تفصل الولايات المتحدة عن موعد الاستحقاق الانتخابي في نوفمبر القادم، حيث ينتخب الأميركيون رئيساً ونائباً له (كل أربع سنوات)، كما ينتخبون كلّ أعضاء مجلس النواب (كل سنتين)، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ (كل ست سنوات)، وعدداً من حكّام الولايات الخمسين، إضافةً لانتخاباتٍ عديدة في داخل كل ولاية. وبانتهاء مؤتمريْ الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الشهر الماضي، تدخل حملات معركة الرئاسة الأميركية في أسابيعها الحاسمة حيث أصبح واضحاً الآن للأميركيين الخيارات المتاحة أمامهم.
وستكون من مفارقات هذه الحملات الانتخابية التنافس عملياً بين احتمالين: وصول أوّل امرأة في الولايات المتحدة إلى موقع الرئاسة (هيلاري كلينتون)، أو الاحتمال الآخر وصول أوّل رجل أعمال من خارج المؤسسات السياسية التقليدية (دونالد ترامب) لحاكمية “البيت الأبيض”. وفي أيٍّ من الاحتمالين، تستمرّ مظاهر التغيير في الحياة السياسية الأميركية والتي ظهرت ساطعة بفوز باراك أوباما في العام 2008 ثمّ في العام 2012، وهو الأميركي من أصول أفريقية ولأب مسلم مهاجر حديثاً لأميركا.
إنّ المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية هي الآن بوضوح معركة بين نهجين مختلفين في قضايا كثيرة داخلياً وخارجياً. وستبرز في هذه الحملات الجارية عناوين القضايا المختلَف عليها فعلاً داخل المجتمع الأميركي، والتي هي تعكس الصراعات الدائرة منذ وصول أوباما إلى سدّة الرئاسة، بين قوى التأثير والضغط التي تقف عادةً مع هذا الحزب أو ذاك تبعاً لمدى تمثيل مصالحها في برنامج كل مرشّح. لكن أيضاً ستظهر في انتخابات نوفمبر القادمة جدّية الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية لدى الأميركيين، وأولويّة مفاهيم ثقافية ودينية واجتماعية في معايير الكثير منهم لدعم أي مرشّح.
فما رمز اليه انتخاب أوباما من معانٍ هامة في مجتمع أميركي كان قائماً على أصولية “أوروبية – بيضاء- بروتستانتية”، وعلى عنصرية ضدّ الأميركيين الأفارقة واستعبادٍ لهم لقرون طويلة، سيلعب دوراً هاماً الآن في نوفمبر القادم، وفي ظلّ اشتداد الحملات ضدّ المهاجرين الجدد لأميركا وضدّ الإسلام والمسلمين. وإضافةً للعامل الاقتصادي، فإنّ ثلاثة عوامل ستؤثّر الآن في الحملات الانتخابية، وقد لعبت دوراً حاسماً في فوز “الجمهوريين” بأغلبية مجلسيْ النواب والشيوخ، خلال فترة حكم أوباما:
1 – عامل العنصرية الثقافية والعرقية والدينية الذي ينمو ويكبر منذ فوز أوباما بالرئاسة، والذي يستهدف كل أنواع الهجرة لأميركا.
2 – عنصر المال وخاصة الدعم الكبير لمرشّحي الحزب الجمهوري والتيّار المحافظ فيه من قِبَل مجموعات عديدة من الشركات والمصارف وقوى الضغط، التي تضرّرت من قوانين الرعاية الصحية والرقابة على المصارف ومن الضرائب، وهي أجندة الحزب الديمقراطي. وقد ساهم في تعزيز دور المال بالعملية الانتخابية قرار المحكمة الدستورية العليا بعدم تحديد سقف مالي للتبرعات للمرشحين، وبحقّ عدم نشر أسماء المتبرّعين.
3- عامل الإرهاب الذي يحدث في أمكنة مختلفة بالعالم، ومن ضمنها أميركا، والذي ترك انعكاساتٍ سلبية كبيرة على المسلمين في الغرب وساهم في تعزيز قوة اليمين المتطرّف في دول أوروبا وبالولايات المتحدة.
أمّا بالنسبة لثقل الناخبين العرب في أميركا، فإنّ عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة نسبةً إلى عدد السكّان الأميركيين. هناك أكثر من 300 مليون أميركي منهم حوالي 3 ملايين عربي يحقّ لهم التصويت، فنسبة واحد بالمائة من السكان لا تغيّر كثيراً من واقعالحال. وهناك تجمّعات عربية منظّمة أحياناً، لكن تأثيرها موضعي ومرتبط بزمان ومكان محدّدين، أو كحالة دعم عددٍ من المرشّحين المحليينفي الانتخابات الأميركية، عِلماً أيضاً أنّ ترشيح أسماء من أصول عربية في الانتخابات الأميركية لا يعني بالضرورة أنّها ستكون منمؤيّدي القضايا العربية.
من ناحية أخرى، فإنّ للعرب الأمريكيين مشكلة تحديد الهويّة وضعف التجربة السياسية، فلقد جاء العرب إلى أميركا من أوطان متعدّدة ومن بلادٍ ما زالت الديمقراطية فيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلّية في بلدان عربية، وتأثير ذلك على مسألة الهويّة العربية المشتركة.
أيضاً، من المهمّ التمييز بين حالاتٍ ثلاث مختلفة: فهناك “أمريكيون عرب”، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول، ومعظم هؤلاء لم يعد لهم أي تواصل أو ارتباط ثقافي مع البلاد العربية وقضاياها، ثمّ هناك “عرب أمريكيون” وهم الأجيال المهاجرة حديثاً إلى المجتمع الأميركي، لكنها مندمجة فيه بقوّة وتشارك في العمليات الانتخابية، وتقود هي عملياً الأنشطة السياسية والثقافية للجالية العربية، وهناك “عرب في الولايات المتحدة”وهم هؤلاء الذين لم يصبحوا مواطنين أميركيين بعد، وأولوياتهم تختلف تماماً عن الحالتين السابقتين. وبينما نجد أغلب “الأمريكيين العرب” غير متواصلين مع البلاد العربية الأم، نرى أنّ الفئة الثالثة، أي العرب المهاجرين حديثاً، غير متواصلة بعمق مع المجتمع الأمريكي نفسه، ولكلٍّ من هذه الفئات نظرة مختلفة للحياة الأمريكية وللدور المنشود في المجتمع.
أضف على ذلك أيضاً، تعدّد الانتماءات الطائفية والمذهبية والإثنية في الجالية العربية. فالبعض مثلاً يتفاعل فقط مع منظّمات دينية إسلامية وهو ما يستبعد نصف الجالية العربية. فأكثرية الجالية العربية هي من جذور دينية مسيحية، بينما نجد أنّ أكثرية الجالية الإسلامية هي من أصول غير عربية. لذلك، كلما كان هناك نشر لفكر عربي سليم فيما يتعلّق بمسألة الهوية، كلّما أصبح بمقدور الجالية العربية أن تتوحّد وأن تنجح عملياً وتتجاوز الكثير من الثغرات.
لكن بغضِّ النّظر عن واقع وظروف الجالية العربية، نجد الآن غالبية ساحقة من الناخبين العرب والمسلمين تقف ضدّ المرشّح الجمهوري دونالد ترامب، لكنّها لا تجد في هيلاري كلينتون البديل المرغوب به، بل ربّما دعمت أعدادٌ كبيرة من هؤلاء الناخبين ترشيح بيرني ساندرز خلال الانتخابات التمهيدية، ولا يستحسنون وضع أصواتهم لصالح كلينتون في نوفمبر القادم. فبعضهم سيصوّت لصالح مرشّحة “حزب الخضر” الدكتورة جيل ستاين التي يتقارب برنامجها والسياسة الخارجية التي تدعو لها مع ما كان يطرحه ساندرز في حملاته الانتخابية. وربما البعض الآخر سيمتنع عن التصويت، لكن أعتقد أنّ الغالبية ستصوّت تحت مقولة: ليس حبّاً بكلينتون لكن كرهاً بترامب.
هذا بشأن انتخابات الرئاسة، أما الانتخابات الأخرى المستحقّة في نوفمبر أيضاً فهي لا تقلّ أهمّيةً عن انتخاب الرئيس الجديد، وهي تشمل كل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، وهذان المجلسان المعروفان باسم “الكونغرس الأميركي” هما من يُنجّح أو يُعيق أجندة أي رئيس أميركي. فالرئيس أوباما عانى الكثير من وجود غالبية جمهورية في مجلسي الكونغرس، خاصّةً على صعيد أجندته الداخلية، وما تحدّثت عنه هيلاري كلينتون من برامج اقتصادية واجتماعية، في كلمتها بنهاية مؤتمر الحزب الديمقراطي، سيعتمد تنفيذها على مدى فوز الديمقراطيين بغالبية الكونغرس.
هواجس معظم الناخبين العرب في أميركا ليست مرتبطة بالبرنامج الداخلي للمرشّحة كلينتون، بل بما يمكن أن تفعله على صعيد السياسة الخارجية، وبالعلاقة القوية التي تربطها بجماعات اللوبي الإسرائيلي، والتي جعلت حملتها تحذف من برنامج مؤتمر الحزب الديمقراطي الإشارة إلى كلمة “الاحتلال” الإسرائيلي أو إدانة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي مسائل طالب بها مؤيدو ساندرز خلال وضع برنامج الحزب الديمقراطي، كما هي قضايا موضع تأييد أيضاً من مرشّحة “حزب الخضر”.
لذلك، ربما يكون من المفيد أن ينشط الناخبون العرب في أميركا لدعم المرشّحين الديمقراطيين لعضوية الكونغرس وبعض حكّام الولايات وفي المجالس المحلية، بينما يُعبّرون عن اعتراضهم على السياسة الخارجية لهيلاري كلينتون من خلال التصويت لمرشّحة “حزب الخضر”، وأن يحرص الناخبون العرب على التفاعل العميق مع تيّار ساندرز الذي سيواصل أنشطته وحركته خلال الحملات الانتخابية القادمة، وبل ربّما بعد الانتخابات، ليكون هذا التيّار قوة ضغطٍ على “البيت الأبيض” وعلى الكونغرس، بغضِّ النّظر عن الحزب الحاكم في أيٍّ منهما.
*مدير “مركز الحوار” في واشنطن