أوغل الكنتي في عرض مقاله الأخير في شرح ظاهرة " الفكر الحر" ابتداء من المصطلح الذي عزاه للأديب و الشاعر الفرنسي فيكتورهوكو مرورا بإنشاء الجمعية الديمقراطية للمفكرين الأحرار و انتهاء بانتشار جمعيات مماثلة في القارة الأوربية، و يعرفه بأنه " موقف يرفض الديغمائيات الدينية ( المسلمات التي لا نقاش فيها ) و الفلسفية و غيرها ويركن بشكل رئيس إلى التجارب الشخصية و العقل لممارسة التفكير و إصدارلأحكام" فهو موقف معاد للدين و لكل المعتقدات أيا كان مصدرها مالم تكن وليدة فكرة ذاتية و تجربة شخصية أي ما لم تكن تفكيرا حرا.
و في مجمل القول في الموضوع فالكاتب يركز ــ و ليس صدفة ــ على مسألتين مما يميز الفكر الحر هما ؛ صفة الإلحاد المتمثلة في إنكار الأديان و الثانية العقلانية المتمثلة في رفض الأحكام ذات المصدرالخارجي أي أنسنة المعارف و الأحكام.
عرج الكنتي أيضا على الفكر اليساري و إن باختصار إلا أن كلا التعريجتين تختلفان في الاعتبار و إن اتحد محل استثمارهما فيما يرمي إليه الكاتب ؛ فالتعريجة على الفكر الحر فباعتباره مرجعا للفكر الإسلامي الحديث حيث اعتبر الكنتي الحركات الإسلامية امتدادا لمدرسة الأفظاني و محمد عبده الذان أسسا دعوتهما التنويرية استلهاما من الفكر الغربي و من ثم لم يعد أحد قادرا على فهم ظواهرها الثقافية إلا في ضوئه وتحت دائرة الضوء للفكر الحر بما فيه من إلحاد و عدائية للدين و محورية لـ"لعقل" في قضايا الحكم و المعارف وضع الكاتب ظاهرة المفكر الإسلامي لئلا يخرج القارئ في فهمها عنه يمينا ولا يسارا.
و أما الفكر اليساري فباعتباره نظيرا و مثالا تم احتذاء قالبه يوما ما خصوصا في البعد السياسي حيث إنه " لا يعود مصطلح " المفكر الاسلامي" إلى الحقل المعرفي البحت ، و إنما يعود إلى المجال السياسي مقابلا للمفكر الماركسي " يرجع ذلك بحسب الكاتب إلى التنافس الشديد بين الحركة الاسلامية و الماركسية ..فثبتت الأولى إشكاليات الثانية كما استنسخت أساليبها التنظيمية.
لكن الكاتب ينبه أيضا ــ ولحاجة في نفس يعقوب ــ إلى أن المفكر الماركسي هو الآخر لا يختلف عن المفكر الحر إلا في الاصطلاح إذ لا يمنع التزام المفكر المقولات الماركسية كونه مفكرا حرا وعلى نفس النسق و طردا لمنهج الأشباه و النظائر في الفكر الإسلامي الحديث جاء مصطلح المفكر الإسلامي فهو من ناحية حر لكونه يستند في تفكيره إلى التجربة الذاتية و عقله الفردي و هو من ناحية أخرى متشبث بالمقولات الإسلامية كما المفكر الماركسي متشبث بالمقولات الماركسية نظرا للبعد السياسي الذي هو ميزة مشتركة بين المفكرين تحل محل البعد المعرفي المجرد .
ذلكم هو مجمل الفكرة التي يرمي إليها الكنتي في مقاله الأخير و استند في ذلك إلى اعتماد مؤسسا المدرسة ا لإسلامية الحديثة فكرتين جاءتا في مقدمة المقال:
أولىهما : الاعتراف بمحورية العقل.
و الثانية: نفي تهمة الانغلاق عن المنظومة الإسلامية.
و قد شكل التزاوج بين الفكرتين ما سماه الكنتي منهج " الأشباه والنظائر" كقالب للتفكير في الحركة الإسلامية الحديثة تم من خلاله تأصيل الثقافة الغربية في التراث الإسلامي.
و يختم الكنتي مقاله بإقرار التعاون بين الغرب و الحركة الإسلامية الحديثة مفترضا صفقة يقدم من خلاها الإسلامييون تجديدا للدين من خلال التفكير الحر يواجه به الغرب الجماعات الإٍسلامية المتطرفة يتضمن ذلك التجديد إبطال فريضة الجهاد و إلزامية الشورى و إحلال الدولة المدنية محل الدولة الإسلامية ... و غيرها ، فيما يقبل الغرب التحالف مع الحركة في مقابل ذلك. و بحسب الكنتي فإنه في ضوء هذه الصفقة تم تأليف مجموعة من الكتب من أبرزها فقه الجهاد للدكتور يوسف القرضاوي قام فيه حسب الكاتب بإبطال فريضة الجهاد بثقافة ألقتها في روعه أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
لا جرم أن أي عاقل يقرأ هذا المقال بتمعن سيجد فيه اختلاط الصحة بالسقم يوائم بينهما موج البلاغة العاتية و إذا تناسينا مظاهر الاستبلاغ في إلباس التهمة للخصوم و ألغينا نصيبها من مضامين هذا المقال ثم ألغينا منه ما كان دافع الخصومة السياسية يؤثر فيه على الكاتب لن يبقى لنا مما يمكن أن يصدق عليه وصف الموضوعية الشيء الكثير ، إلا أن ذلك لا يعني أن كل ما ورد في هذا المقال مجرد عن وصف الصحة بالجملة و التفصيل بل إن هناك ومضات هي في الحقيقة واقع حي و إن كنا لا نسلم أن الكاتب قد عبر عنه كما هو فعلا.
فلا جرم أن كل العالم العربي و الإسلامي قد تأثر و لا يزال بالثقافة الغربية بل إن أغلب التيارات الفكرية قد خطت إلى الأمام حتى صارت تستنسخ التجارب الغربية بقضها و قضيضها و من لم يتمكن من ذلك ظل يحاول بل لا يزال لا سيما التيار العلماني و اللبرالي حيث كانا أكبر مروجين لتلك الأفكار و حتى المناهج و ليس في ذهن علماني و لا أي لبرالي في الماضي و الحاضر نسق للتفكير خارج عن إطار الأنساق الغربية و قد أكون غنيا عن ذكر هذا بما أورده الكنتي في مقدمة مقاله إذ ذكر وقوف الأفغاني و محمد عبده في وجه التيار التغريبي الذي وصفه بأنه كان جارفا.
و حيث كان الوضع على ذلك النحو في العالم العربي و الإسلامي فإن تأثيرا من نوع ما على التيار الإصلاحي ذي الطابع الديني الذي تزعمه المفكران الأفغاني و محمد عبده لا يكون مستبعدا .قد تكون هذه نقطة اتفاق مع الكاتب ولكن إلى أي مدى كان ذلك التأثر ؟ لا شك أنه ليس إلى مدى اتباع طريقة المفكرين الأحرار أو الماركسيين في التفكير الديني كما يصف الكاتب بل إن أكبر تجليات ذلك التأثر جاء في صورة غيرة من واقع الغرب في الشؤون الحياتية و دعوة للمجتمع الإسلامي للنهوض بحاله و التغيير من واقعه و أقرب ما يتعلق بالمعرفة من ذلك ما رآه التيار الإصلاحي من عدم نجاعة بعض الأنساق المعرفية الإٍسلامية التي كانت سائدة كعلم الكلام و الأصول و المنطق و الفروع الفقية و قد حملهم ما يرونه تقليدا زائدا في الدين على تجاوز بعض أسوار نظرية المعرفة كما أسسها علماء الإسلام وعدم مراعاة بعض القواعد في المنهج المعرفي فضلا عن الزهد التام في الموروث من نتاج ذلك المنهج مما سموه بالكتب الصفراء و ألبسوه و المشتغلين به ــ وهم بالمناسبة أغلبية ــ لبوس الجمود فيما كان منه مسائل فقهية و لبوس الخرافة لما كان منه سلوكا استنادا إلى حالات من الشذوذ و عبَروا في ذلك السبيل من فكرة التمييز بين أصل الدين باعتباره وحيا إلهيا و بين الفقه و التراث المعرفي الإسلامي باعتبارهما نتاجا إنسانيا لتسلب عنه القدسية مستفيدين من تجربة سبقتهم بالزمان على يد الداعية السياسي محمد بن عبد الوهاب و لولا أنهم تخلصوا في هذا التفكير من صرامة المنهج الكلامي و الأصولي لما سيطر الوهم ليجعل من ذات الفهم للخطاب الشرعي نقيضا لنفس الخطاب بدعوى التناقض بين البشرية و الإلهية في المصدرين ثم بعد ذلك يدعون لفهمهم ــ و هو للتذكير نتاج بشري المصدر ـــ الاتفاق و خطاب الوحي، و مهما تحلى الواصف لهذا النهج بالأدب و التقوى و العفة في اللسان فلن يجد بدا من وصفه بالمصادرة و التعصب؟!.
و هل كان ذلك استنساخا لتجربة الثورة الغربية على الأنساق الكنسيةحتى اندفع محمد عبده في محاربة الأزهر ؟ واضح أنه ليس بتلك الدرجة و إن كان معبرا عن نوع من التأثر كما تمت الإشارة سابقا و يكمن الفرق في أن المفكرين الأحرار و الماركسيين كانت ثورتهم ضد الدين من حيث هو كسلطة إلزام و مصدر للمعرفة خارج إطار الإنسان فلا الكتاب المقدس و لا شارحوه ولا كذلك من يعزى إليه نزوله ــ( الله) بمحل ترحيب أو اعتبار بخلاف مدرسة الأفغاني و الشيخ محمد عبده فإن رفضهم إنما اقتصر على الفروع المعرفية دون الأصول فالطعن هنا ليس في القرآن و لا في الوحي بشكل عام و إنما في فهم الفقهاء و العلماء الإسلاميين و ما انتجوا من تراث و حتى بعض مناهجهم المعرفية باعتبارها أجنبية من الوحي عديمة الصلة به هذا أولا. و ثانيا أن التحرر الفكري عند الأفغاني و تلميذه لم يكن كما هو عند الأحرار يفكرون بعيدا عن أي اعتبار بل ظل يصطحب فكرة وجود الله و إلزامية وحيته و محوريته في المعارف الدينية بل و الولاء للأمة الإسلامية روحا و شعورا و نضالا.
إن مظاهر الحق في مقال الكنتي في دعوى تأثر مدرسة الإصلاح بالمناهج الغربية شكلا و اصطلاحا و إشكالية لا تبرز في محورية العقل و رفع تهمة الانغلاق في المنظومة الإسلامية
فإن محورية العقل في المعرفة أحد الثوابت الإسلامية و لكنها ترد دائما في مصاحبة اختصاص الوجوب أو الأحكام عموما بالشرع فيما جاء في عبارات شائعة " المعرفة بالعقل تحصل و بالشرع تجب " " المعارف كلها بالعقل و الواجبات كلها بالسمع " ولم يخالف في ذلك إلا دواعش التاريخ الإٍسلامي، وإنما يبرز في التالي :
أولا : محورية السياسة كموجهلصانع رئيس لبعض المواقفحيث تم استلهام الصورة الغربية في الثورة على الدين المسيحي الانتزاع السلطة من الكنيسة و قد كان هذا الدافع مؤثرا في الكثير من الأفكار و المواقف منها على سبيل المثال :
الهجوم على المذهبية بدعوى أنها فرقت المسلمين و أنها نقيض للوحي و ما هي المذاهب سوى أفهام الفقهاء المتولدة من نظهرهم في نصوص الوحي ؟ وأي فرق بين فهم محمد عبده أو الأفغاني و فهم الشيخ عليش و الدرديري؟! و لكن غلبة الدافع السياسي الرامي إلى استقطاب الشارع الإسلامي من يد المذاهب و الفرق السائدة دعت إلى هذه المواقف التي لا قوام لها في العقل إلا بالنظر من زاوية سياسية و هذا ما أشار إليه الكاتب من التحول في مصطلح المفكر الاسلامي ليكون موضوعه السياسة بدلا عن المعرفة و هو مناسب فعلا لإسقاط الحالة الغربية و الماركسية على تيار التجديد في هذه النقطة بالذات، نفس الحالة ـــ و إن بشكل أوضح و ربما أدلت بدلوها في التأثير على مدرسة الإصلاح الديني ــ هي ما أورثه التحالف بين ابن عبد الوهاب و محمد بن سعود في الحجاز للحركة الوهابية حيث ظلت السياسة صانعة للمعرفة أو بمعنى آخر المعرفة في خدمة السياسة و كان الموقف ذاته من المذاهب و الواقع المعرفي الإسلامي من جهة ما هي منغص للطاعة السياسية نفس الجهة التي منها أتت مدرسة الإصلاح.
الهجوم على معاقل المعرفة الإسلامية كالأزهر ليكون ذلك مقدمة إلى انتزاع المرجعية و السيادة في المعارف الإسلامية ليس بالصورة المعرفية العادية التي تأتي تلقائيا من خلال العبقرية الموهوبة و إنما من خلال الأسلوب السياسي في الدعاية الإعلامية و هذا قادح أيما قدح في المنهج و يجعل المعلومة الدينية عرضة للتأثر بأهواء المنازعات لا وليدة مقتضاها من العلوم و المعارف فضلا عما قد تُلْجِأُ إليه من استخدام أدوات غير مشروعة و لهذه الظاهرة العامة شمول و انتشار كبير .
ثانيا : النظرة الفلسفية في المعرفة و الوجود . فقد أظلت أفكار المنهج التجريبي الغربي سماء مدرسة الإصلاح لتتماها معها في بعض الأطروحات نذكر من ذلك نموجين :
الأول : اتخاذ السببية الرشدية بديلا لنظرية الكسب استناد إلى عقدة المنافس ( المدرسة الأشعرية) من جهة و قرب نظرية الأسباب إلى العقلية الغربية بحكم عراقتها في الفلسفة الأرسطية من جهة ثانية ، و من جهة ثالثة كونها هي الأساس الوحيد للثقة في العلوم البشرية ليس في واقع الأمر و إنما عند عباد المادة و الطبيعة فإن مبدأ جعلية الأسباب و مقارنتها الزمنية ووجوب ذلك التزامن في حكم العادة لا يكفي في ثبوت العلوم كما أنهلم يكن ليرضي المفكرين الأحرار الذين ينطلقون من محض الإلحاد لأن جعلية الأسباب تعني في إثباتها إثبات جاعل ضرورة هو الله الذي لا إله إلا هو فماذا يفعل من ليس مؤمنا بالجاعل الخالق سوى إيمانه بحتمية نشوء السبب على المسبب عقلا.
الثاني: تبني بعض القضايا مما يعبر عن السير قريبا من طريق إنكار المغيبات كالحديث عن المعجزات و النبوة و طبيبعة تفسيرها و أشياء كثيرة كان التزاوج بين دافع الدعاية السياسية و التأثر بالثقافة الغربية المهيمنة سببا في ظهورها بين أدبيات مدرسة الإصلاح.
إن حظ الإٍسلاميين في مدرسة الإصلاح من التفكير الحر هو أنهم حاولوا و بالدوافع أعلاه إنشاء فهم و تصور للدين ليس بالاستناد إلى النظر العقلي المجرد و إنما بالاستناد إلى النظر في الوحي خارج إطار المنظومة المعرفية الإسلامية فجاء التصور ـ رغم الجهد الذي بذل فيه و رغم الإخلاص الذي امتاز به ـ تصورا ناقصا مشوها مناقضا لمقاصده الوحدويةو النهضوية يفتقد للانسجامية في محيطه المعرفي و التأصيل في منابته من علوم الملة و فهوم فقهاء الأمة و فيما كانت مخرجات المنظومة الإسلامية من مدارس عقدية و طرق صوفية و مذاهب فقهية تتسم بالهدوء قلبا و قالبا و الانسجامية و الانتظامـــ و إن بشكل يميل نحو الخمول لأسباب خارجة عن ذاته ـــكانت مخرجات ما يعرف بالصحوة الإسلامية ابتداء من الحركة الوهابية مرورا بمدرسة الأفغاني و انتهاء بما يسمى تجوزا بتيار الاخوان المسلمين تتفاوت فيما يجمع بينها من حالة الثورة على الواقع المعرفي و الاجتماعي و طغيان أسلوب المنازعة ذات البعد السياسي فانتحرت الوهابية في أيامها الأولى بتأسيسها منهج التطرف معرفيا على قاعدة التكفير الذي كان أيام التأسيس نوعا من الدعاية السياسية و سوطا تساق به العامة و الدهماء إلى طاعة الدولة الناشئة قبل أن يكون عقيدة تدرس إلى جنب عقيدة أعضاء الله..و تقوقعت في المجال بين آراء ابن تيمية مأثورات نعيم ابن حماد و الدارمي في الرد على الجهمية و اكتفت من الغنيمة السياسية بدولة آل سعود و ألقت جسم العقل في بئر مأثورات القرن الثالث و و اعتقدت مقولة جان جاك روسو " إن الذكاء أداة للشر في أغلب الأحيان " فصاغت شريعة من الأحاديث المقطوعة و عقيدة من تصورات رواة خراسان.
أما الأفغاني و محمد عبده فجمعا في تفكيرهما بين العبقرية النخبوية و الصدامية للواقع المعرفي و الاجتماعي معمظاهر التأثر بالثقافة الغربية فلم يجد له طريقا إلى عقول العامة لنخبويته كما لم يسلم من المواجهة من التيار الإسلامي الأصيل فكان تأثيره في المجتمع يسيرا ضئيلا بل خافتا جدا و ظل حبيس رفوف المكتبات و أ عماق أدمغة المطالعين.
جاء بعد هؤلاء و أولئك الأستاذ الصوفي حسن البنا ليسلك طريقا تجنب فيه الصدامية إلا مع الاحتلال و مهد طريق جماعته متخذا الأخوة للمسلمين شعارا و وسما و استفاد من الأخطاء التي وقع فيها السابقون فحظي منهجه بالانتشار و كأنه يعيد تجربة الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري و الذي خرج من بين العقلانية المعتزلية و تقليد الرواة فعبرت آراؤه عن جمهور المسلمين نخبة و عامة و أخذتها أقلام العلماء إلى كل الأصقاع، و ظلت عائقا دون أوهام الجهال و مزالق الفلاسفة، فيما احتفظ الأستاذ حسن البنا باعتبار المجال السياسي من أساسيات منهجه و هو يكاد يكون المشترك الوحيد الذي يجمعه بمن سبقه على خلاف ما يتصور الكثيرون و في مقدمتهم الكاتب.
و إذا كان ما سبق شرحه هو من صميم ما أصاب أو اقترب فيه الكاتب من الصواب فإنه و على نحو صارخ تساهل بل تحامل جدا عندما زعم أن الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الجهاد كان قد أسس لإسقاط فريضته و قد كان يوجد لهذه الدعوى معنى لولم يكن هذا الكتاب مصدرا بآيات من الذكر الحكيم من قبيل قوله تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) و قوله ( و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك وليا و اجعل لنا من لدنك نصيرا ) و قوله ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) و الكثير من الأحاديث و النصوص و الاستشهادات التي قدمها بين يدي دراسته لموضوع الجهاد ليؤصله تأصيلا و لو لم يكن في فصله الثالث عقد عنوان " خطر القعود عن الجهاد " صحيح أن القرضاوي فكك نظرية المتطرفين في الجهاد ـــ و هم بالمنسابة من مخرجات التفكير في نصوص الوحي بمعزل عن منهج المعرفة في الاسلام ـــ و ما عسيت أن الكنتي يهاجم الكتاب و كاتبه نظرا بعين الشفقة إلى جهاد المتطرفين .
في الختام لم يكن الكنتي في مقاله الأخير يمارس الافتراء بالضبط و إنما كان يكتب و يبالغ و يمد حبل أكبر عيب في الثقافة الإسلامية الحديثة هو الصداميةأورثت الأمة نهجين أحدهما في الحكم و الآخر في المعرفة يلخصهما محض الديكتاتورية الفكرية و السياسية .
لقد كان يفعل الشيء ذاته الذي فعله الداعية السياسي محمد بن عبد الوهاب عندما وصف أهل الجزيرة العربية و كافة المسلمين بالمشركين استنادا إلى افتراض اتحاد المشبه و المشبه به في الحقيقة( القبور و الأصنام التبرك و العبادة ) و ما فعله الكُتّاب في مدرسته من بعده ــــــيوم قطعوا حبل الوصل معه إلى الشيخ بن تيمية رغبة في مُقَلَّد أقوى و أكثر تصورات ــــ عندما وصفوا المدرسة الأِشعرية بأنها تعتمد دينا أساسه الفلسفة اليونانية و كما كان يتكلم الداعية السياسي من موقع المساند للحكم و السائر في الدعاية له كان الكنتي يكتب من نفس الموقع و يسعى لذات المقصد و الفرق الوحيد هو ذكاء الكنتي و قدرته اللغوية و قدراته المعرفية.
إن الإسلام الذي قائل قائل يوما ما إنه هو الحل ليس هو إسلام الصدام و المبالغات و ليس العلم الذي يصنعه موقف سياسي أو عدائي و إنما هو العقيدة المرساة على العلم المحض و محض العقل و الشريعة التي تصنع المواقف السياسية على مقاسها و مقاس المصالح العامة للشعوب الإسلامية، و هو السياسة التي تنظر بعين العقيدة و تسمع بقانون الشريعة و تفعل وفقا لطموحات الشعوب إنه الرابطة المثلى و العروة الوثقى و ليس القيمة التي بها يتم الافتخار و تكون ساحةً للتنافس على طريقة الأسواق و سياسة التسعير و الترويج الاعلامي.
**** بقلم: الاستاذ سيد احمد السالك