“دور البرامج الاخبارية الحوارية بالقنوات التلفزيونية الكويتية في ترتيب أولويات القضايا السياسية لدى الشباب الجامعي” عنوان لأطروحة ناقشناها للطالبة الكويتية لؤلؤه غلوم، في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية. طبعاً نالت الطالبة لقب دكتورة في علوم الإعلام والإتّصال، لكنّها حفّزتني لأن أشير الى ملاحظات ثلاث تهمّ شباب العرب بشكلٍ عام:
1- الأولى هي مدى الإقبال الكثيف من طالبات العرب وطلاّبهم للإلتحاق بالمعهد المذكور وخصوصاً من الأردن والعراق والكويت وسلطنة عمان، مع أرجحيّة ظاهرة للطالبات على الطلاّب في إنهاء الدراسات العليا. وبتواضعٍ كلّي، نعلن المناخ النقدّي والعلمي الديكارتي الذي يتمتّع به العمل في المعهد ، بغية تعزيز النقاش ورفع مستوى شهادة الدكتوراه، وفتح الافاق امام الطلاب العرب لتصويب أبحاثهم وجعلها تحمل أهدافاً وتتفادى الأخطاء في صيانة مجتمعاتهم وترقيتها.
2- وتكمن الملاحظة الثانية في الأهميّة التي يمنحها هذا الجمهور الأكاديمي الشقيق للإختصاص في علوم الإعلام ووسائله وتأثيرها على المجتمعات العربيّة. ويعود هذا الأمر، بالطبع، الى الصدمة التي أصابت الشباب العربي وما زالت حيال العصف المفاجيء الذي أورثه ” الربيع العربي” سلباً أم إيجاباً مع أنّ الإيجابيات قليلة بعدما تكشّفت الأغطية وبدت الأيادي والأصابع المستوردة الكثيرة تعبث بالعرب وتنسف الإستقرار الى حدود إستباحة تلك الوسائل لكلّ حدود والقيم والقوانين. باتت الشاشات بمعناها الواسع لا الشاشات التلفزيونية وحسب بل أجيال الشاشات المعرفية كلّها تتنافس أو تتقدّم في تطاولها على السياسات من دون إعتبار كبير لما تورثه من إنهيارات وخرائب وقلّة مسؤولية. وتقوى تلك الأهميّة في حمّى الصراعات الدموية والحروب الإعلامية الدائرة بين الشاشات العربية الكثيرة جدّاً في قضايا كبرى تسقط فيها أنظمة وأحزاب أحرقت أصابعها وتاريخها بين شعوبها وانصياعها الكامل لغيرها، وتنبثق أنظمة لم تستقرّ صورها بعد، وتتوجّس أنظمة أخرى من مخاطر أخرى تلوح في الآفاق.
3- أمّا الملاحظة الثالثة الأكثر أهميّة فتنضوي في أنّنا ننتقد الشاشة في المنازل والمدارس والمقاهي والمطاعم، وننتقد الشاشة من على الشاشات وقد نصل إلى زمنٍ عربي يؤسس فيه أولادنا معنا جمعيات للدفاع عن حقوق المشاهد وجمعيات من أجل مراقبة الإعلام ومجالس تلفزيونية تضمّ مجموعات من الجمعيات والفرق والمؤسسات التي تخلّص الجماهير من مقص الرقيب وتعرف تحديد الأولويات . والسبب أنّ فكرة تتفيه بعض مضامين الشاشات ومقاومتها في تضليلها وتحريضها ليست عملاً فردياً سريّاً يقوم على الحجب والمنع وتبديل الأزرار، بقدر ما هو عمل جمعي ووطني وإيديولوجي يعارض محتويات وسائل الإعلام ويمارس الضغط وصولاً إلى تشكيل تكتلات وحركات اجتماعية ناشطة قادرة أن تغيّر في أداء وسائل الإعلام وأدوارها وتأثيراتها . من يقوى على الشاشة وسلطاتها التي تنافس السلطات الأخرى بما فيها الدينية منها قد يتمكن من رسم نقاط مستقبل أمته في عصر حروب الطائرات من دون طيّار التي لا تتجاوز في وظائفها آلة التصوير . لقد إنقضى زمن كان ربّ العائلة فيه يشيح ببصره عن الشاشة أمام مشهد ما، وكان هذا يكفي ليغمض أفراد العائلة عيونهم عنها أو يخرجون من أمامها . تغيّرت الأمر، وباتت كلّ المحرّمات تحت الوسادات وفي الغرف المغلقة ومثلها مضامين الصور والأفلام مواد للنقاش والحوار في المنزل والمدرسة والجامعة.
لماذا؟
لأنّ المحرّم يقع عند الجسد الذي يعتبر في أدبياتنا محور المحرّم والتابوهات، مع أن الأديان وخصوصاً الإسلام تناول المسألة بكثير من العقلانية التي قد تبرّر تعرّي الغرب كردود فعلٍ إلى حدود مسخه منّا بالكفر والاستعداء، وحيث تبدو صدمة الحضارة بين الغرب والشرق في القشرة الحضارية أعني في الشكل والزي. ليس المقصود بالجسد هنا منبع المحرّم، لكن تشاء اللغة أن تعبّر بشكلٍ هائل عن القضايا، فيصبح حرف الجيم في كلمة الجسد تعني الجنس، والسين تعني السياسة وتعني الدال الدين . ومن هذه النوافذ يدخل الغرب علينا باستراتيجياته المتجددة في زمنٍ نرى فيها وسائل الإعلام المتعددة التقليدية منها والبديلة الحديثة أو ما يعرف بالعربية بوسائل التواصل الجماهيري تتجاوز الدوائر الثلاث التي كانت تتشكّل فيها أنساق القيم ونعني بها ثالوث العائلة والمدرسة والمجتمع، وهنا تبرز أدوار قادة الرأي من آباء ومعلمين وأساتذة جامعات ورؤساء أحزاب ومسؤولين سياسيين وأعيان الذين ينتظر أن يخلعوا منابرهم وسلطاتهم بلطفٍ لأن أجيال الفئران الذين يقبضون على المعرفة المشتتة في أزرار متنوعة قد سبقوهم ولا بديل لهم عن الحوار معهم ولربّما التعلم منهم.
ملاحظة أخيرة:
نحن لا ننفي أخيراً، أنّ هذا الإقبال علينا هو ظاهرة عافية وتبادل حريّات أكاديمية وفكرية وثقافية أكثر من ضرورية في عصرٍ من التشظّيات العربيّة المقلقة سواء على مستوى الأنظمة أم على مستوى الشعوب. ولربّما يصل بنا الأمر على مستوى المفكّرين والنخب، الى إجتراح جامعة تستقطب الأكاديميين العرب للتفكير والتباحث في أحوال العرب ومستقبلهم وتقديم الأوراق والمقترحات الى دوائر القرار في العالم ومراكز الأبحاث والمنهجيات الجديدة، بهدف تصحيح الخلل وتجليس الصور ووضع الإستراتيجيات الجديدة النقيّة لإنقاذ المجتمعات العربية ممّا وصلت إليه.
يفترض أن نعلن بشجاعة علمية أنّ معظم المصطلحات تبدو رذيلة وقد أفرغت من معانيها وتحتاج الى إعادة شحن، كما أنّ الأفكار والنظريات التي تدعو الى ترتيب الأولويات باتت نمطيّة ولا تعني لنا الكثير. إنّها نظرية غربيّة المولد تعود الى مئة سنة الى الوراء.
لنقل بأنّه يصعب علينا ترتيب أولويات شبابنا ومجتمعاتنا وربطها بالشاشات. أوّلاً لأنّ ترتيب الأولويات يتناقض ويتنافى كليّاً مع زمن الفوضى التي لم تصل الى مستوى الخلاّقة بعد كما أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، وثانياً لأنّ إختلاط العلوم والمناهج وهجرة الفلسفة وترك الساحة للإعلام وسلطاته معضلة العصر، وثالثاً لأنّ الثقافة بفضل أو عبر وسائل الإعلام والتطبيقات التي لا تنتهي في مجالاتها تولّد ما يمكن أن أسميه ثقافة الصدفة أي أن الصدفة في البحث هي التي تقودك أحياناً من حقلٍ الى آخر ومن علمٍ الى آخر حتّى التشتّت والضياع، ورابعاً لأنّ التبادلات الحرّة في العالم الإعلامي المسطّح الذي لا تغيب عنه الشمس ولّد ما يمكن تسمبته بالمشاعية الثقافية والفكرية.
بصراحة….أنا لا أتصوّر أنّ ترتيب أولويات الشباب العربي محصورة في برامج إعلامية محدّدة أو ببرامج “التوك شو”. ولكنّني أطمح لأن أضع هذه المسألة المهمّة والملحّة أمام شباب الخليج، بل فوق طاولة حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
كاتب لبناني