ولأنني " واحد من اهل الشرگ " أردت أن أنفس عن نفسي وأكتب عن موضوع كان في لائحة الإنتظار .
حمولة المصطلح ( ١ ) : العلمانية
طُرح على النخبة في البلدان النامية إشكال في صيغة سؤال "هل الديمقراطية مشروطة بالعلمانية ؟"
وطرح في شكل آخر على صيغة "هل المدنية نتاج مشروط بالعلمنة ؟ "
الحقيقة أن الجدل الفكري غالبا ما يغرق في وحل المصطلح ، ولا يخرج من حدود اللغة إلى حيز الواقع .
العلمانية حسب التعريف العاطفي هي فصل الدين عن الدولة .
وحسب التعريف العلمي هي حياد مؤسسة الدولة عن تمايزات مواطنيها ( الدينية والعرقية والمذهبية وحتى الخيارات الفكرية الفردية ) .
والعلمانية بهذا التعريف ليست بدعا أوروبيا ولا مدرسة سياسية متميزة بخصائص من حيث هي كأداة تطبع الحكم .
فحياد الدولة عن تمايزات شعبها هو مجرد مفهوم فطري للعدل لا يصح أن يقال أنه اختراع أمة ولا نتاج مذهب فلسفي ولا سياسي .
حياد الدولة عن تمايزات الشعب هو مذهب عدل دعت له كل الأديان والقيم الإنسانية . فمفهوم العدل إرث إنساني عتيد وضارب في تاريخ الإنسان ابتداء من نشأة أول عائلة .
وهنا يمكننا القول بأن العلمانية كمفهوم للعدل هي تحصيل للحاصل .
يبقى أن نطرحها كمفهوم له حمولة تتعلق بمناهضة الدين
وهنا بالتحديد سأنزل إلى السياق المحلي وأطرح السؤال التالي :
عن أي دين يمكن للدولة الموريتانية أن تمارس الحياد أو الفصل ؟
ولصالح أي عدالة مع دين آخر ؟
السؤال بالطبع غبي لكنه يكشف غباء طرح العلمنة كخيار للدولة الموريتانية .
الدولة كيان خادم ومنظم وحام لقيم مواطنيها .
وهي بذلك لا تمتلك خيار الحياد أو الفصل عن رغباتهم وحاجاتهم التي تنبع من صميم وجدانهم .
يكون منطقيا أن نقول بفصل الدين عن الدولة باعتبارها دولة راعية لمواطنين من عدة أديان .
لكن من الفارغ أن نقول فصل الدولة عن دين واحد يدين به كل مواطنيها .
هذا اقتباس شكلي لا معنى له ولا قيمة علمية .
أما إذا كان حياد الدولة عن تمايزات مواطنيها العرقية والثقافية .
فهذا مايسمى بالعدل على اعتبار أقدمية الأسم والمسمى عن مصطلح العلمانية والحكم بها .
حسنا ..
سيقول لي أحدهم ، ماذا عن العلمانية التركية والتونسية مثلا ؟
وسأجد نفسي أمام سؤال حي وضارب في عمق الوجدان السياسي باعتبار تونس وتركيا دولتين حققتا نموا وسط كومة التخلف في العالم الإسلامي .
هذا ما يسمى بالدعاية السياسية ، تلك الدعاية التي توظف الأخلاق في إبادة البشر ، وتبرر القتل برعاية الحياة .
وهنا سأورد شاهداً لضرورة المطابقة والتبين .
انجز جمال عبد الناصر ثلاث منجزات لازالت ركائز للإقتصاد المصري حتى اليوم (بناء السد العالي ، تأميم قناة السويس ، وانشاء مؤسسة مصانع الحديد والصلب ).
ورغم أن عبد الناصر لم يكن صاحب فلسفة مبدئية في الحكم ، إلا أن أنصاره على امتداد العالم العربي أخذتهم العزة بالإعجاب لتصور مدرسة تسمى الناصرية ، لازالوا يعجزون عن الصدح بمحدداتها الفكرية دون الوقوع في حبائل الإشتراكية أو القومية ( وهما مدرستان سبقتا عبد الناصر ) .
فأصبحت الإنجازات تعد للناصرية كمدرسة حكم ، بينما لا يعرف الناصريون اليوم إلى أي مدرسة يحسب سد هوفر في الولايات المتحدة .
ولاحتى لمن يحسب القطار التحت بحري بين بريطانيا وفرنسا .
يعود فضل المنجزات لنجاعة الحكم لا إلى طبيعته ، وتلك الحكمة التي يصر رعاة الايديولوجيا على تجاهلها ، لأنها تهدم منظومة القداسة .
فتراهم يفاخرون بنظام التعليم في كوبا بينما لا يستشعرون ذات الاعجاب في أرقى نظم التعليم في العالم في دول اسكندنافيا .
إنها الدعاية السياسية لا أكثر .
يعود الفضل في نهوض تركيا إلى خروجها من حرب دون امبراطورية لم تعد تحسن الدفاع عنها ولا حكمها ( العثمانية ) .
وماحصل في تركيا هو إحياء أو بعث لمفهوم الدولة القومية الوطنية .
وهو إجراء ثبتت نجاعته في كل الدول ذات الإرث الإمبراطوري ، ومنها بريطانيا التي تربط و تتوئم بين سيادة الدولة وسيادة الكنيسة .
وهو مزج بين سلطتين في دولة مدنية وديمقراطية بحكم العرف وليس القانون .
تلك المدنية التي توصف مؤسسة حكمها العتيدة ب " حامي الإيمان " .
ويطلق على ملكها صفة دستورية وهي " الحاكم الأعلى للكنيسة الإنجليزية " .
وغير بعيد يشهد العالم العربي المُغتصٙب ، على ميلاد مستعمرة تتباهى بيهوديتها و لا يختلف بغلان عربيان على مدنيتها وديمقراطيتها وريادتها ضمن أوائل الدول المنتجة لأذكى التقنيات .
أما تونس فعلمانيتها ليست سوى شطحة من مخيلة الفُجر في الخصومة ، سوقت بورقيبة لعقود على أنه العلماني الذي خطف البراءة والصلاح من طرف العالم الاسلامي القصي .
وتلك شائعة أخذت في ذاكرة المثقف العربي مكان الحقيقة لأنه لا يقرأ .
فالمادة الأولى من الدستور التونسي ( البورقيبي) تنص على أن : تونس دولة حرة، مستقلة، وذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها."
وماوصف به بورقيبة تونس الحديثة هو أنها دولة مدنية وليست علمانية .
انقلب السحر على الساحر إذا .
تونس التي تتباهون بعلمانيتها وتنسبون فضل تقدمها ونهضتها لها " طلعت لاهي علمانية ولاهم يحزنون " .
تحققت في تونس مدنية إذا بلا علمانية ، وأبسط دليل على ذلك أن العلمانية ترتكز على الديمقراطية كأداة للحكم .
وبورقيبة رحل عن الكرسي بعد أن رحلت ذاكرته هرما ، وبعده ابن علي هربا .
عن أي علمانية تتحدثون في بلد لم يقل قائله ولا دستوره ولا نظام حكمه أنه علماني ؟
إنها الدعاية السياسية لا أكثر .
المدنية إذا ليست نتاج العلمانية ولا العلمانية شرط لمدنية .
والدين ليس ضد الدولة والدولة راعية لدين أو أديان مواطنيها .
ونحن شعب يدين بدين واحد وتدين به الدولة من باب البداهة وتحصيل الحاصل .
يبقى أن نتفق أن الغاية هي دولة مدنية متقدمة ومزدهرة وعادلة .
وحيادها عن تمايزاتنا المحلية هو مايسمى بالعدل ولا يلزم حشره في قالب اصطلاحي ينازع مفهوم التقدم في مخيلتنا الشكليةليس إلا .
وأخيرا ، إذا وجدتم عبارات غير لطيفة في هذا المنشور فتذكروا استهلاله .
والتمسوا لأخيكم العذر .
وتذكروا أن المشروع الوطني سيكون حاضنة لوعي يرص من التاريخ أساسا صلبا لمطالعة المستقبل .
بهوية وطنية تطرح الدين مسلمة ثابتة بداهة وليس خيارا متحركا شهوة أو تقليدا .
وينطلق في صناعة مدنية وعدالة لا تستنزف عاطفة الدين ولا العرق لتبني ذاتها وتشتت الوطن .
مشروع يشكل بيئة للدول الحلم .
ويصقل الوعي الوطني أمام زيف المثل الحالمة .
ليضع نصب عينيه مبدأ وقانونا كونيا محايدا وهو أن الثمرة من أرض الندرة لا تكون إلا بالعمل .
وأن البؤس كل البؤس في بلوغ حناجر المنظرين مبلغا تتقاصر دونه سواعد المنهكين .
-----------
من صفحة الأستاذ محمد أفو على الفيس بوك