تأملات في ماضينا السحيق
الثلاثاء, 03 ديسمبر 2013 14:18

قبل خمسة عقود ظهرت في عمق الصحراء الكبرى موريتانيا الحديثة، بلاد مترامية الأطراف، خانتها الجغرافيا، ولم ترحمها الطبيعة، ولم يساعدها الكم ولا الكيف البشري على التتحكم في فعلها الحضاري كما ينبغي ، خانتها جغرافيا عازلة عن المحيطين العربي في الشمال

والأفريقي في الجنوب له مسالك أكثر هدوء، وحد من طموحها تضاريس قاسية لا تساعد على ظروف العيش في الحد الأدنى ،جبال شاهقة يعانق لعابها خيوط شمس محرقة، وأماكن تحمل أسماء أودية عرفها معمرو البلاد ربما في عصور لم يحفظ عنها ما يثبت صدق التسمية، وكثبان موحشة ، إنها تضاريس عصية على الحضارة تلك التي منح الله لهذا الشعب، وجبله على أن يختارها بمحض إرادته فعمرها ما استطاع للتعمير حيلة ، وعشقها فتغنى بألوان كثبانها المتعرجة وعلى أنغام خرير مياهها الشحيحة ، لم يرد عنها بدلا ، ظل متمسكا بها مدافعا عنها واقفا في وجه كل مغامر يريد اكتشاف ما بداخلها من تنوع سلالي أو معدني، واصلوا شق طريقهم الخاص،وكان لكل محطة رجالها وأعلامها ومتميزوها ، وفنونها التي تستجيب لمطالب أهلها، تفاعلوا في المناشط، وأهداف العيش المشترك، والنحل ، اقتباسات من موزيك عرقي شكل رافدا عمق التلاقح بين عديد من الفنون ، موسيقى أهل جنوب البلاد لا يتوقف تأثيرها على لآلة المستخدمة فقط عند أهل الشرق والشمال بل يتجاوز إلى الإيقاع نفسه، فيحدث في أذن السامع تناغما وجدانيا يشعره بانسجام يشبه حد وحدة المصدر.

في هذه الأرض موريتانيا الحديثة تلا قحت وتفاعلت منذ أعصر أمم ، وتناظرت وتحاورت نحل عديدة تلاحظ رتوشها الخفية بعيدة عن المفكر فيه والحاضر في الوجدان، يحسها من يفكر بعقله في تضاريس ونحوتات أهلها القدماء في كل ناحية تقريبا توجد قصص متشابهة ومتشابكة تتحدث عن نفس الأنساق وعن نفس الشعوب الذين اختاروا التعايش والتفاعل في هذا الفضاء الشحيح غير المشجع على بناء حضارة مزدهرة عامرة فاعلة ،

ومع ذلك مهدوا لاستمرار الجنس البشري فوق هذه الربوع وضربوا أمثلة نادرة في قوة الإنسان على قهر المحيط القاسي ، وبرهنوا أن الثابت في تاريخ الشعوب هو الألفة والمحبة والتعاون والتعاضد وليس التنافر والتباغض ، تلك حالات معزولة تحكمها ظروف نادرة ، وأهواء الظلمة المستبدين الجشعة أعداء البناء والنماء تماما كما هو حال البعض منا في عصور العلم والعقلانية الملفتة،متى سنبحث معا لكشف هذا الغموض المزيف الذي نريد تجذريه وتبنيه حول ماض هذه الأرض التي ورثناها كابرا عن كابر، ووجدنا فيها هذا التنوع والتناغم الراسخ والعميق في النفوس، بعد خمسة عقود من ظهور موريتانيا الحديثة،

بعد خمسة عقود من تحطم كل الدعوات التنفيريه آن لنا أن نفكر في ذلك الماضي السحيق المجسد فعلا لروح الألفة،التي عرضنها في تاريخنا الحديث للكثير من المخاطر فصمدت صمودا عجيبا فيه دليل على عمق جذورها ودليل على أنها ليست وليدة التاريخ المحفوظ بل سبقته وهي أعمق منه بكثير، وكثافتها هي التي تمدنا بكل هذه الخصال والنعم غير المعبر عنها صراحة فبعد خمسة عقود من تاريخنا المعاصر لنطور أنفسنا من اجل أن نفهمها فهما صحيحا يعزز وحدتنا في هذا الفضاء الواسع، وان نحارب الجوانب السلبية من تاريخنا المحفوظ المشكوك في صحة الكثير منها ولنعتبر الذي صح منها شذوذا يثبت قاعدة الألفة التي كانت تميز ماضينا السحيق .

الأستاذ سيد محمد ولد جعفر