رأيٌ في قضية “السلفية الجهادية” |
الأحد, 18 مايو 2014 20:19 |
عبدالعالي مجذوب*
بسم الله الرحمن الرحيم توضيحات لقد تكلم الناسُ كثيرا فيما اشتهر، في الإعلام، بقضية “السلفية الجهادية” بالمغرب، التي احتلت مكانا بارزا في حياتنا السياسية والأمنية والإعلامية، بعد تفجيرات الدار البيضاء الإجرامية في 16 ماي 2003. ليس من غرضي في هذه المقالة أن أكرر ما قيل في الموضوع، وإنما غرضي الأساسُ أن أركز على نقطة لم تأخذ حظَّها الكافيَ والمنصفَ فيما تداوله الناسُ، وكتبه الكتابُ، ونشره المتتبّعون والدارسون، من أحكام وأفكار وآراء ونظريات وتحليلات.
وأقدمّ لحديثي بتوضيحات أعتبرها بمثابة مقدمات:
التوضيح الأول أنَّ الجميع-ومن هذا الجميع الدولةُ المخزنيةُ نفسُها- بات يعترف أن ملف ما يُسمّى بـ”السلفية الجهادية” قد حصلت في معالجته تجاوزاتٌ، على المستويَين الأمني والقضائي. وكان من آثار هذه التجاوزات أن كثيرا من المواطنين قد ظُلموا ظلما بيّنا من غير جريرة ارتكبوها، ومن غير أن تكون لهم أيُّ علاقة موضوعية ولا جنائية بجرائم 16 ماي، فزُّجَّ بهم في السجون ظلما وعدوانا.
والتوضيح الثاني أننا، وبعد مرور أحد عشر عاما على تفجيرات الدار البيضاء، يمكننا أن نقسّم المتهمين في هذا الملف قسمين اثنين، لا ثالث لهما في رأيي. يضم القسمُ الأول المتهمين الذين ثبتت عليهم التهمةُ، بالأدلة المعتبرة في القضايا الجنائية، ومن ثَمَّ فهم مجرمون يجري عليهم ما يجري على سائر المجرمين. والقسم الثاني يضم المعتقلين الذين أُقْحِموا في الملف إقحاما، واخْتُلقت عليهم التهمةُ اختلاقا، لا لجريمة ثبتت عليهم، ولا لدليل قانوني رجَّحَ تورطَهم في الجريمة، وإنما الأمر، ببساطة، أنهم كانوا ضحايا الحملة التي شنتها الدولةُ المخزنية، والتي اختلط فيها الجناة بالأبرياء.
والتوضيح الثالث أن الدولة، لو كانت عادلة في هذا الملف، لكانت، منذ زمان، قد بادرت إلى إطلاق سراح الأبرياء، الذين تم الحكم عليهم بناءً على الشبهات، والتقارير البوليسية المبالغ فيها، والآراء المسبقة تجاه المتهمين، فضلا عن الأجواء العامة التي خلفتها التفجيراتُ الإجرامية، والتي امتازت بالكراهية والتحريض على كل ما هو “إسلامي”، وكذلك المتنفَّسُ الذي أتيح للدولة وأجهزتها البوليسية، بعد المصادقة على “قانون الإرهاب” مباشرة بعد أحداث 16 ماي، وهذا ما جعل هذا القانون وتلك الأجواء يشكلان غطاء مناسبا للممارسات المخزنية الظالمة التي شابت هذا الملف.
والتوضيح الرابع أن الدولة، رغم اعترافها بأن ملف ما يُعرف بـ”السلفية الجهادية” قد كانت فيه تجاوزات، أي أخطاءٌ وظلمٌ، فإنه لم يكنْ منها خلال إحدى عشرة سنة سلوكٌ مسؤول لتصحيح هذه الأخطاء، ولرفع الظلم عن المظلومين. وإنما ظلت الدولة لامبالية بالموضوع، حتى باغتتها عواصفُ “الربيع العربي”، كما باغتت العالم، فبادرت، تحت ضغط الضرورة، إلى الإفراج بعفو ملكي عن بعض المظلومين في الملف، الذين نعتَهم الإعلام، بالرغم عنهم، بـ”شيوخ السلفية”، وما هم في الحقيقة بشيوخ للسلفية ولا لغيرها، وإنما هم رجال لهم أفكار وآراء واجتهادات، ومواطنون لهم حسناتهم، ولهم أخطاؤهم، فَرضَت عليهم الحملةُ المخزنية، بعد أحداث 16 ماي 2003، أن يلبثوا في السجن مظلومين حوالي تسع سنوات قبل أن تقرر الدولةُ الإفراجَ عنهم تحت وطأة هزّات الربيع العربي التي كانت تهدد الدولة المخزنية في القلب.
في صميم المقالة
أرى اليوم، في ذكرى تفجيرات 16 ماي2003، أن كثيرا من السياسيّين وبعض الصحافيين وكتاب الرأي، فيما يرَون ويقترحون ويكتبون، يربطون التسوية النهائية لملف ما يُسمى بـ”السلفية الجهادية”، في بعض جوابها، بوجوب حصول ما يسمونه “مراجعات”، في فكر المعتقلين المظلومين وآرائهم واجتهاداتهم، التي يرون، بحق أو بغير حق، أن لها أساسا في الإسلام.
أما موضوع “المراجعات”، فإني أنظر إليه من جانبين: الأول أن “مراجعات” المعتقلين الذين ثبت تورطُهم، المباشر أو غير المباشر، في جرائم 16 ماي، إما باعترافهم الصريح، وإما بقوة الأدلة ووضوح القرائن التي تُدينهم-بغض النظر هنا عن الظروف التي تمت فيها الاعتقالات والاستنطاقات وكتابة المحاضر، وعن الطرق التي اعتُمِدت في جمع حجج الادعاء وأدلة الإدانة- ستكون أمرا يخصهم هم، ولن يكون لها كبير الأثر في ملفهم الجنائي. فمراجعاتهم-إن تمت بالفعل- ستكون أمرا يهمهم في دينهم ودنياهم، وفي علاقتهم بمجتمعهم. وهذا الحكمُ يشمل جميع المدانين في قضايا جنائية؛ فالتوبة والإصلاح مطلوبان، بل هما راجعان بالنفع، إن شاء الله، على التائبين المصلحين أولا وأساسا، ثم يكون للمجتمع، ولا شك، نصيبُه من هذا النفع.
أما الجانبُ الثاني الذي أنظر منه إلى موضوع “المراجعات”، فيتعلق بالمساجين المظلومين في هذا الملف، الذين لم يثبت عليهم، بوسائل الإثبات المعتبرة في القضاء العادل، أن لهم يدا، من قريب أو بعيد، في جرائم تفجيرات 16 ماي، وإنما شملتهم الحملةُ المخزنية، إما لأنهم كانوا معدودين من أصحاب الفكر والرأي والاجتهاد، وإما لأنهم ربطتهم، في وقت من الأوقات، علاقةٌ ما بواحد أو أكثر من المجرمين الرئيسيين، وإما لأنهم حاضروا في ندوة، أو كانوا، في يوم من الأيام، في مناسبة حضرها، من غير ميعاد أو اتفاق مسبق، واحد أو أكثر من المتهمين المتورطين في القضية، وإما لغير هذه من الأسباب والتهم، التي لا تساوي شيئا في ميزان العدل والتحقيق النزيه.
مطالبةُ هؤلاء الأبرياء بمراجعة آرائهم ومواقفهم واجتهادتهم هو، في رأيي، ظلمٌ ثان بعد الظلم الأول، الذي نالهم بالحكم عليهم بالسجن النافذ لمدد طويلة تصل إلى ثلاثين سنة.
هؤلاء أبرياء، ولا علاقة لهم بالملف الجنائي، وإنما وقع ما وقع في حقهم لأن الحملة شملتهم. وكان الصواب أن يُطلق سراحهم، ويُردَّ لهم اعتبارُهم منذ زمن طويل.
وهل مِن خير يُرْجى من مراجعات تقع تحت الضغط والابتزاز؟
وهل من مصداقية لمراجعات تتم تحت الطلب، ولا تنبثق تلقائيا من قلبٍ مطمئن، وفكر مقتنع ومتبصّر؟
هل كان هؤلاء المظلومون يحملون أفكارا لا تعجب بعض الناس؟ نعم، وأين التهمة في هذا؟ لو كانت الأفكار التي لا تعجب المخزنَ تشكل في حد ذاتها جريمةً، لوجب اعتقالُ جميع أصحاب الأفكار التي تعارض المخزن، وإدانتُهم وسجنُهم.
هل كانوا يدافعون عن آراء ومواقف معينة، لا ترضَى عنها بعض الجهات؟ نعم، وماذا في هذا من ذنب أو عيب؟ لماذا هم بالذات، وليس غيرهم، من اليساريين المتطرفين العدميين، مثلا، أو من غلاة الأمازيغيين العنصريين، أو من الحداثيين اللادينيّين، أو من غير هؤلاء من الآراء والمواقف والاختيارات؟
لماذا التركيزُ، في مسألة التشدد والتطرف والسلفية والجهاد، على من لهم انتماء إسلامي؟
ألم يكن دائما في اللادينيين متشددون متطرفون، يجاهرون بأفكارهم ومواقفهم التي تناقض مقدسات المجتمع، وتجحد ثوابتَ الإسلام، وتستهزئ بمعتقدات المسلمين؟
ألم يكن دائما في اليساريين راديكاليون لا يفتأون يدعون للعنف وما في حكم العنف، لمعالجة القضايا الفكرية والسياسية؟
أليس اليوم في الأمازيغيّين متطرفون يمتازون عن سائر المغاربة برايتهم، وبمقالاتهم الشاذة والغريبة والعنيفة في مجالات الدين والتاريخ واللغة وغيرها من مقومات مجتمعنا؟
لا أحد ينكر أن يكون في هؤلاء الأبرياء في ملف “السلفية الجهادية” متشددون وغلاة في الدين، لكنه غلو وتشدد في الفكر والفهم والتأويل، لا يرقى، مهما كانت التبريرات والتفسيرات والتكييفات، إلى أن يصبح جريمة جنائية تسوق صاحبها للسجن لسنوات طويلة.
الغلو في الدين قديم في المجتمعات الإسلامية، وروحُ علاجه إنما هو بالفكرة السليمة من غبش التطرف، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، وبالتواصل البناء، لا بالتنابذ والتباعد الهدّام.
العدلُ يفرض أن يكون لهؤلاء الحقُّ في أن يعبروا بحرية عن آرائهم وقناعاتهم، ما داموا في حدود القانون لا يتعدونها، وما دام أسلوبُهم لا يخرج عن نطاق الكلمة والفكرة والرأي والاجتهاد إلى السلوك العنيف والفعل الدموي الإجرامي المحرم.
أحرامٌ على بلابِله الدوْحُ، حلالٌ للطّيْر من كلِّ جِنسِ؟
أحلالٌ حريةُ التعبير، في كل الاتجاهات والموضوعات، وحقٌّ مصون، لكل التنظيمات والتيارات والمشارب من غير الإسلاميين، حرامٌ على ذوي المرجعية الإسلامية، الذين لا يفتأون، بأقوالهم وأفعالهم، يتبرؤون من العنف وأصحابه، ومن الإرهاب ومُحتضنِيه ومُتبنِّيه أسلوبا في العمل السياسي، ومطيةً في مواجهة الأفكار والإديولوجيات المخالفة؟
أمِن العدل أن يتمتع كلُّ من هبّ ودب، في مجتمعنا المسلم، بحريات لا حدود لها، للتعبير عما يطعن على ديننا بالمقالة الصريحة، وينتهكُ حرماتنا وأخلاقنا بالسلوكات الفاضحة، ويُحاصرَ الإسلاميون، وتُحسبَ عليهم أنفاسهم، ويُعاملوا دوما على أنهم مُدانون حتى تثبت براءتُهم؟
هذا ليس بعدل، وإنما هو الظلم الصُّراح، الذي يعمق الجراحات، ويغذي أسباب الفتنة، ويمكّن لقيم الكراهية والعداوة والبغضاء، ويخرّب أساسات البناء.
وبعد، فإني أرى بعضَ الحقوقيين والسياسيين، وخاصة من الإسلاميين المشاركين في الحكومة، بسكوتهم أو مناوراتهم أو تلاعبهم بالكلام في هذا الملف، يُكرسون هذا الظلم الواقع على هؤلاء المسجونين منذ سنوات بغير ذنب اقترفوه، ولا جرم ارتكبوه، سوى أنهم رأوا رأيا، أو قالوا مقالة، أو اعتنقوا فكرة واجتهادا، جعلهم يُصنَّفون، عند الظالمين، في المغضوب عليهم.
ألا (إن الظلم ظلمات يوم القيامة).
ألا، إن الظلم مؤذن بخراب العمران.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
* نقلا عن “هسبريس” المغربية |