خلق الفوضى.. وتخلق الفوضى
الثلاثاء, 17 يونيو 2014 22:20

عبدالله بن بجاد العتيبيبن بجاد العتيبي الفوضى تُخلق والفوضى تتخلق، بمعنى أنه يمكن خلق الفوضى سياسيا عبر التخطيط المتقن والتنفيذ الصارم، ولكن الفوضى ولود؛ فهي تستطيع التخلق والتكاثر بناء على عوامل غير قابلة للحصر، منها عوامل تاريخية وثقافية ودينية واقتصادية واجتماعية لا تنتهي.

 

من يخلق الفوضى يحسب دائما أنه قادر على التحكم بها وإدارتها والوصول بها إلى أهدافها، أو على الأقل التحكم بنسبة الأضرار الناتجة عنها، غير أن تخلق الفوضى وتطورها الذاتي قادر على إفشال كل المخططات المرسومة، بمعنى أن النزاع بين الفعل السياسي والفعل التاريخي كان وسيظل في تفاعل دائم، هذا فضلا عن أن النزاعات السياسية لها دور مهم في دفع هذا التفاعل أو التدافع باتجاه النجاح أو الفشل.

تقول السياسة إن الفوضى يخلقها الأقوياء والمغامرون، ويستجيب لها الأقل قوة ومغامرة، ويقول التاريخ إن الفوضى المخلوقة تمنح فرصا لتخلق فوضى غير قابلة للتحكم وغير خاضعة للتوجيه، وبعيدا عن التفسيرات التآمرية فلنأخذ أوضاع منطقة الشرق الأوسط كمثال.

فتح ما كان يعرف بالربيع العربي أبواب المجهول لفوضى كان يعتقد البعض أنها خلاقة، وكانت الاستجابة أن تجلت تلك الفوضى عن سيطرة شبه تامة للقوى الأصولية وجماعات الإسلام السياسي، كان الغرب يعتقد أنها البديل المناسب عن أنظمة سياسية هرمة وعن جماعات إرهابية فاعلة ومقلقة، وخسر في رهانه، وكان الشرق يقف قلقا منها ومن تبعاتها وإن لم يتخلَ عن أي فرصة للوصول للعالم العربي والتأثير فيه، كما فعلت روسيا في موقفها من سوريا.

اليوم، تجد الدول العربية أنها محاطة بأعداء أشداء، تتقدمهم الجمهورية الإسلامية في إيران، الدولة الراعية الأولى لجماعات الإرهاب السني والشيعي، والتي تتفاوض معها الولايات المتحدة على الملف النووي فقط، وهي تقدم التنازلات تلو التنازلات دون جدوى، وإيران هي الدولة التي التهمت السلطة في العراق، وتحتل أجزاء مهمة من سوريا بالقيادات والأفراد والمعدات، وهي تحيط الدول العربية من كل الجهات، من الشمال؛ حيث عراق المالكي وسوريا الأسد ولبنان نصر الله، ومن الجنوب؛ حيث الحليفان في اليمن (تنظيم القاعدة) و(تنظيم الحوثيين)، ومن الغرب دولة السودان العربية المقسمة، والتي تبدو مقدمة على مزيد من الفشل، والتي أصبحت مركزا لخصوم العرب الإرهابيين.

لقد جرى إنقاذ مصر من الفوضى المخلوقة وعليها أن تواجه الفوضى المتخلقة، وهي بصدد استعادة دورها العربي والإقليمي، كما أنها بحاجة لنشر نموذجها الجديد في دول الاحتجاجات والانتفاضات العربية، وبخاصة جوارها الغربي؛ حيث ليبيا الفوضى الأصولية بكل معانيها، والصراع في ليبيا أكبر من أن يترك لليبيين وحدهم، وقد كان السودان مصدرا لدعم الفوضى في مصر، فقد قام الإخوان المسلمون بتهريب الأسلحة لمصر في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وقد أقر السودان بأن طرابلس الغرب 2011 سقطت بأسلحة سودانية مائة في المائة، ومع حصول السودان على دعم ملياري من دولة عربية صغيرة فمن السهل معرفة أنه سيكون موجها لضرب استقرار الدولة المصرية.

مع الاهتمام المستحق بمصر وسوريا كرقمين صعبين في المعادلة الإقليمية، فإنه لا يجب التسليم بالتحكم الإيراني بالعراق، ولا تركه نهبا بيد إيران والجماعات الإرهابية، بل ينبغي خلق قوة عراقية أصيلة سياسيا وعسكريا، وتوفير الدعم المحلي والإقليمي والدولي لها، بمعنى التخلص من حكومة المالكي الطائفية وحركات الإرهاب في الوقت نفسه.

الدول الإقليمية هي دول جديرة بالاهتمام، وأهمها باكستان وتركيا. أما باكستان فقد أثبتت على مدى عقود أنها عمق استراتيجي للدول العربية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، وأما تركيا وتحالفها الحالي مع «جماعة الإخوان المسلمين» الإرهابية ولقاءاتها مع إيران، فيمكن التعامل معها اقتصاديا بما يحمي مصالح الدول العربية.

كما كان متوقعا، فالتنظيمات الأصولية والإرهابية نمت تحت حكم الإسلام السياسي، ومن هنا فإن احتلال «تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام» المعروف بـ«داعش» لمدينة الموصل ومحافظة نينوى بأكملها والتوسع خارجها، هو استكمال لما مضى من الفوضى الدولية والإقليمية.

في العراق، حكومة المالكي الطائفية أنتجت تنظيم داعش الإرهابي، وحين ظنت أنه النصير الذي يجب دعمه لحماية النظام في سوريا انقلب عليها واحتل الموصل، بالطبع فتنظيم داعش لم يفعل ذلك وحده، بل بالتعاون والتنسيق مع الغاضبين الذين خلقتهم طائفية المالكي، وإصراره وعناده على تبني الطائفية نهجا سياسيا مستقرا.

توجهات الفوضى المتطورة والمتقلبة تجبر كثيرا من المتابعين على اللجوء إلى نظريات المؤامرة من كل شكل ونوع، وتفتح أبواب التيه أمام التفسيرات التآمرية التي تحاول أن تقرأ المشاهد المضطربة كل من زاويته، وبعض هذه التأويلات والتفسيرات غير ملوم في اندياحه مع التيه نظرا لاضطراب المشهد وتشتت الرؤى وتناقض المعطيات، وما يمكن أن يعصم من ذلك التيه هو الانحياز للحقائق، ومن أهمها في هذا السياق حقيقتان؛ الأولى أن إيران هي المتحكم الأول في قرارات حكومة المالكي وهي فعليا تسيطر على العراق، أقله في مؤسسات الدولة. والثانية أن معظم تنظيمات الإرهاب السني والشيعي خاضعة لسيطرة إيران منذ أمد طويل.

أربك الحدث كثيرا من المواقف الدولية والإقليمية، فدعت تركيا حلف شمال الأطلسي لمساعدتها في حماية قنصلها ورعاياها في الموصل، وهو يدرس الأمر، وتبدو إدارة أوباما الانعزالية عن العالم تعيد النظر في رؤيتها ومواقفها، ويكفي قراءة موقفها من «داعش سوريا» و«داعش العراق» لرؤية التناقض.

فتح الحدود بين سوريا والعراق لدعم نظام الأسد كان قرارا عراقيا وإيرانيا، ولكن أحدا منهما لم يتوقع أنه يمكن لهذه الحدود أن تكون باتجاهين لا باتجاه واحد، وفي التاريخ القريب فقد كان النظام السوري يدعم «تنظيم القاعدة» في العراق بعد 2003 بالمال والسلاح، وقد دعمت إيران والعراق تنظيمات الإرهاب، «النصرة» و«داعش»، بالمال والسلاح لضرب المعارضة السورية منذ نهاية 2011، واليوم تستخدم التنظيمات الإرهابية الطريق ذاته، ولكن بشكل معاكس.

تبدو حركات الإسلام السياسي في تناقص تدريجي باتجاهين؛ الأول نحو الحياة الطبيعية سياسيا واجتماعيا ودينيا، والثاني، نحو الإرهاب الصريح والمنظم والعسكري، وهذا أمر جيد؛ بحيث تجد هذه الحركات نفسها مجبرة على الاختيار بين طرفي نقيض، إما الانخراط في الحياة المدنية، وإما الاستمرار في الإرهاب.

أخيرا، ستظل مثل هذه الأحداث والفوضى تفاجئ المتابعين من فترة لأخرى بصدمات كبرى، بغض النظر عن اتجاهها أو المستفيد منها، ولا يبدو أن الفوضى ستهدأ حتى تستنزف الجميع.

    * نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”

فيديو 28 نوفمبر

البحث