حين لا ينفع الوصل!!! |
الأحد, 01 يونيو 2014 09:25 |
كان يوما دعويا حافلا. دعونا فيه على أسامة ولناقة البسوس.. آويت إلى الفراش منهكا، أغلقت الهواتف واستلقيت... شعرت بضيق التنفس.. الفضاء رحب لكنه مكتظ بشكل مخيف؛ الأجساد تزاحم الأجساد دون أن تلمسها كأن بينها حاجزا رقيقا غير مرئي يضغط كل جسد على حدة عند تلاصق الأجساد.. رائحة العرق لا تطاق. كنت أشق طريقي بصعوبة دون أن أتبين وجهتي، كأنما أساق بقوة خفية.. لا أكاد أتبين ملامح الناس من حولي؛ أبصار شاخصة ووجوه عابسة وسط صمت مطبق.
انشق أخدود فجأة فشق الجموع نصفين.. تنبعث من الأخدود رائحة كريهة وهواء جاف شديد الحرارة.. سار سيال كهربي بين الأجساد صنف الناس مجموعات منفصلة. نظرت خلفي فإذا غوغاء ينتشرون على مد البصر.. تتزاحم الأجساد، وتتعالى الأصوات بكلام غير مفهوم.. يحاولون دفعي إلى الأمام فلا يستطيعون وأحاول التقدم فلا أتمكن. رائحة العرق لا تطاق والضجيج يصم أذني. ازداد زحام الغوغاء عن يميني وعن شمالي، لكن قوة ما تمنعهم من التقدم. أحسست أرواحا تتحرك بخفة بين الجموع؛ تنظمها، تضبطها، وتوجهها.
فجأة انتصب ميزان عملاق عند نهاية الأخدود، كفتاه تتأرجحان يمنة ويسرة، وقلما تساوتا.. كأن حركة الميزان تنظم حركة الجموع.. يسقط بعض الناس في الأخدود من شدة الزحام! ويصعد آخرون إلى حيث لا أدري... كنت أقف على حافة الأخدود مباشرة، فأحاول أن أتراجع مخافة السقوط إلا أن قوة خفية تثبتني بشدة، والرعاع من خلفي يدفعونني بقوة. بين الفينة والأخرى يظهر أشخاص خلفهم مجموعات تقل وتكثر، وأفراد، ومثاني؛
رجال ونساء، يمرون فوق الأخدود بشكل عجيب، مر السحاب.. لم أتبين مواقع أقدامهم لكن خطاهم واثقة، يحنون رؤوسهم في خشوع، كأنما يلبون نداء خفيا ويقصدون وجهة يعرفونها... تفرست الوجوه فبدت لي متشابهة، عليها مسحة من نور تعلوها ابتسامة خفيفة، وفي العيون بريق شوق لا يخفى... لم يكونوا من أهل الموقف. وفود تزف إلى مكان تشتاقه، هكذا بدت ملامحهم... استمرت حركة الميزان في تسارع ينظم وجهة الجموع... خُيّل إلي أني سمعت اسمي يهمس.. - الشهادة... - الصلاة... - الصوم... كنت أسمع تمتمة لم أتبينها..
- الزكاة؟ - يعطي منها و يأخذ. - الحج؟ - لا له ولا عليه. ساد صمت ثقيل. نظرت إلى الميزان فلم أتبين وضع الكفتين.. عاد الصوت الخافت من جديد. - الدماء... أحسست شيئا ما يشد وسطي بقوة. نظرت فإذا حزام ناسف يطوق خصري. تحسسته بيدي محاولا إبعاده فانفجر بصوت مكتوم. لم أشعر بشيء لكني رأيت أحشائي تتدلى فوق قدمي دون أن تلامسها. خرج شيء ما من قفصي الصدري وتدلى مثل الوسام. شعرت برعب شديد. فجأة ظهرت أمامي بندقية قناص مصوبة إلى رأسي.
حاولت أن أغمض عيني فلم أستطع، فكرت في الهرب فتذكرت الأحشاء المتدلية، حاولت التشهد فثقل لساني، تصببت عرقا غزيرا. استقرت الرصاصة في عيني. لم أحس بشيء، غير أن عيني تدلت مثل حبة العنب على خدي، فوق الشيء الذي خرج من قفصي الصدري.
لا تزال حبة العنب تبصر. ظهر الوسام.. مضخة آلية صغيرة تعمل بنشاط عجيب، فتضخ الدماء عبر أنبوب نحاسي إلى باقي الجسد. لم تكن حبة العنب ترى سوى ذلك. رأيت، بالعين الأخرى، شابا مفتول العضلات، تخرج من لحيته الكثة أسراب من الدود تلتهمه، و هو آخذ بخناق رجل في عمر أبيه يجره، وفي يده الأخرى سكين. تل ضحيته لجبينه دون أن تقاومه، أمامي، فوق الأخدود، ذبحها بعناية المضحي.
وحين فرغ كان الدود قد كسا جسده تماما. التفت إلي ومسح سكينه على جبيني، ثم تلاشى ودوده في الأخدود. أخذ جبيني ينزف تحت قدمي. ظهر شاب آخر، مكان رجل الدود. وجهه شاحب، ثيابه رثة، وآثار الشقاء بادية عليه. أخرج من فيه عود ثقاب مبلل. نفخ عليه، وآخرون التفوا من حوله، حتى جف. فتش جيوبه بعصبية... ضاقت الحلقة من حوله.. كامرات، وعدسات، خطباء وعساكر.. كلما حاول الخروج من الحلقة أعادوه فيها فتزداد عصبيته، ويعيد تفتيش جيوبه.. فجأة نظر إلي، كأنه اكتشف شيئا.. حك عود الثقاب على جبيني النازف فاشتعل...كانت قطرات الدم تنفجر مثل الألعاب النارية فتضيء ساحة حرب بشعة؛ قصف عشوائي، سيارات مفخخة، أشلاء ممزعة، ونيران مشتعلة. وحدها حبة العنب كانت تراقب المشهد بوضوح كامل. مرت الأشلاء تحت أنفي.. أصابع مبتورة تشير إلي، وقبضة بلا ذراع مرفوعة في وجهي... ارتفع منسوب دماء النزيف إلى الركبة، ولا تزال القطرات تسّاقط برتابة مثل حبات مسبحة عجوز... عاد الصوت الخافت.. -التبرعات... ظهرت تلة ثلج عظيمة تتدحرج إلى إحدى كفتي الميزان. ثم توقفت فجأة. تبينت بصعوبة صوتا خافتا يتمتم في حزم: - لابد من وصل... انتابني إحساس أن الهمس يتعلق بي، فتملكني قلق شديد. صوبت حبة العنب عدستها على تلة الثلج فرأيتها تذوب.
ازداد قلقي.. كيف الحصول على وصل قبل ذوبان الجليد؟ ازداد ضغط الغوغاء من خلفي، وشعرت كأن أهل الموقف جميعا ينظرون إلي، ينتظرون أن يفرغ مني ليصار إليهم، وأنا موقوف على الوصل ولا أجده... ظهر شبح، عند نهاية الأخدود يجر لسانا في غاية الطول يتزحلق على لعابه و تقضمه القوارض من جوانبه.. على طرف اللسان ثبت وصل.. خفق الوسام بشدة على صدري. بدا أن اللسان يعرض الوصل على الجموع دون أن يلتفت إليه أحد.. ركزت عدسة حبة العنب على تفاصيل الوصل فشعرت بإحباط شديد. استمر اللسان يتزحلق في لعابه، يعرض وصله، والقوارض تقضمه، حتى ظهر رجل من الأرقام، على ظهره سنام من المجسمات.. سحب الوصل ووضع مكانه رقما... لم تعد حبة العنب ترى شيئا، فقد غمرتها الدماء التي أصبحت تلجمني.. تسارعت دقات المضخة، وتناثرت الأحشاء، أحسست ببرد لا يطاق، فتحت فمي لأستنجد فشرقت بشلال الدم...
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... - مالك! ما الذي رأيته في الحلم؟ هل تزوجت علي سرا في الحلم؟ سأمنعك من ذلك، حتى في الحلم. أشرت إليها بشربة ماء، فقد كان ريقي جافا، وقلبي يكاد يقفز من صدري... صاحت بالشغال، دون أن تتحرك... أفرغت الكأس، وطالبت بأخرى. فعادت تلح.. - ماذا رأيت؟ لن أتزحزح حتى تخبرني. فكرت في أعماق سري.."رأيت أمرا شبيها بـ... ها! قد استيقظ الزوج بداخلي..." بالكاد استطعت أن أنطق.. - اتركيني أستريح! سأخبرك لاحقا. واستلقيت على ظهري. ظلت جاثمة بضع دقائق، ثم تحركت بتثاقل، خارج الغرفة وهي تتمتم... كلمات لم أتبين منها سوى.. ما... إلا... عاد تنفسي طبيعيا، وانتظمت دقات قلبي، جف العرق، فاسترخيت. فتحت الهاتف فإذا رسالة، فتحتها.."أيها المشترك الكريم يمكنك تخصيص رنة هاتفك، أو تنبيه الرسائل الواردة بهذا الصوت "الملائكي".. يا زمان الوصل... لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى...". كان الصوت ينساب دافئا يحكي أسقام ابن زيدون، ويحاكي دلال ولادة... فكرت.. في سعة الذاكرة، في كثرة الرواية وشح الدراية.. في فقه العصر وفتاواه.. في نهضة تونس وسقوط مصر.. في خراب جلق وفوضى المدن الثلاث.. في الرمز والهمز واللمز.. في الأربعة الطلقاء والإبهام المعتقل ظلما.. في تقلب فصول السنة من ربيع مزهر إلى خريف كئيب.. في سرعة تبدل الأحوال عند نهايات الشهر.. في انحسار ظل الدوحة وتسييج الرياض.. في المراجعات والمظاهرات.. في الفورة والثورة.. في نجدة النيتو وعداوة الفيتو.. في كيمياء الغوطة وسيمياء جنيف.. في إفك القنوات وأعداد الوفيات.. في فتن كقطع الليل المظلم و"جهاد" تموت الغوغاء فيه تحت راية الديمقراطية لإعلاء كلمة الحرية.. في مآسي اللاجئين وتناحر المقاتلين.. في شرع الله وحياة الناس... ترى! في أي كفة سيوضع كل هذا.. حين لا ينفع الوصل!!! --------------------- من صفحة الأستاذ اسحاق الكنتى على الفيس بوك |