في جلسته التي عقدت بناء على طلب روسيا مساء الثلاثاء 16 شباط لبحث استهداف تركيا مواقع لحزب «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا لم يتخذ مجلس الأمن أي قرار رسمي حول الموضوع. لكن مندوب فنزويللا، رفائيل راميريز كارينو، رئيس الدورة الحالية، أعلن أمام الصحفيين بعد انتهاء الجلسة، أن «جميع أعضاء المجلس أعربوا عن القلق إزاء القصف التركي على بعض المناطق داخل سوريا»، وأن «أعضاء المجلس طالبوا تركيا بضرورة الامتثال للقانون الدولي». في حين قال أحد دبلوماسيي إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إن تصريحات رئيس المجلس «لا تعكس رؤية كافة أعضاء المجلس»، فيما نفى المندوب التركي اتخاذ مجلس الأمن «أي قرار يتعلق بتركيا والتطورات الجارية في شمال سوريا».
كانت، في الواقع، مجرد جلسة مغلقة أريد بها كما يبدو ـ في غياب أي قرار أو بيان رسمي صدر عنها ـ تخفيف حدّة التوتر بالكلمات! فالتصريحات التي صدرت عن المسؤولين الأتراك والسعوديين معلنة عن تدخل بري قريب تقوم به السعودية وتركيا استثارت تصريحات مقابلة تنذر بالويل والثبور إن تحقق مثل هذا التدخل: ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي، الذي يعلن نذر «حرب عالمية جديدة وطويلة»، والعراق الذي يحرك حشوده الشعبية نحو الحدود السعودية، ووزارة الخارجية الروسية التي تشترط لأية عملية برية «موافقة الحكومة السورية والأمم المتحدة»، وإيران التي ترفض أي احتلال عسكري لسوريا معلنة في الوقت نفسه أنها لم ترسل إليها إلا حفنة من المستشارين (حفنة لا يقل عدد أفرادها مع ذلك حسب آخر الإحصائيات عن 1500 مستشار من ضباط الحرس الثوري الإيراني!). ذلك أن نذر أخطار حرب شاملة تقع بين تركيا وروسيا تجلت واضحة إثر اتخاذ المؤتمرين في ميونيخ يوم الثاني عشر من الشهر الجاري قرار وقف إطلاق النار في سوريا. فالهجمات الشاملة التي قادتها روسيا بتغطية جوية كاملة سواء لقوات النظام الأسدي أو للميليشيات متعددة الجنسيات تحت القيادة الإيرانية والتي كانت تهدف في إطار الخطة الروسية إلى تحقيق تقدم على الأرض تستطيع معه أن تفرض في الاجتماع القادم بجنيف رؤيتها لطبيعة ومآل الحل السياسي المنتظر في سوريا بعد القضاء على قوى المعارضة المسلحة المتواجدة في حلب وفي ريفها عن طريق محاصرتها وقطع كل الطرق التي تصلها بتركيا والتي تسمح بتموينها فضلاً عن تسليحها. كان ذلك يعني في الوقت نفسه تحقيق عدة أهداف معاً لا تقل في نظر موسكو أهمية عن الهدف الأول: تبديد كل آمال تركيا في خلق منطقة عازلة على حدودها مع سوريا، ودفع عشرات الألوف من اللاجئين السوريين من ريف حلب نحو حدودها، ودعم «وحدات الحماية الشعبية» الكردية، وهي الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، بتنسيق مع ميليشيا النظام الأسدي التي جُنِّدَت لاحتلال مواقع المعارضة السورية في ريف حلب، وذلك لحرمان تركيا من أي إمكانية للتدخل أو للتأثير في الشأن السوري السياسي أو العسكري.
لكن ذلك كان يعني بطبيعة الحال تهديداً مباشراً وخطيراً لما تعتبره أنقرة أمنها القومي. لذلك لم تتأخر في آن واحد عن إعلانها عن أنها ستحول بكل السبل دون وقوع مدينة أعزاز بين أيدي «وحدات الحماية الشعبية» الكردية من ناحية، وعن البدء بقصف هذه القوات في الأماكن التي احتلتها ولاسيما في تل رفعت من ناحية أخرى. نعلم جميعاً أن سوريا هي الرهان، وأنه إذا كانت روسيا تعتبرها مجالها الحيوي الأخير على شاطئ المتوسط الشرقي ومن ثم فهي لم تتوقف لحظة واحدة عن دعم النظام الأسدي سياسياً وعسكرياً بالتضامن والتكافل مع إيران منذ بداية الحراك الثوري في بداية عام 2011 ، فإن تركيا تعتبر أيضاً أنها هي المعنية الأولى بما يجري فيها سياسياً وأمنياً، لا لوجود حدود مشتركة تمتد على ما يقارب الألف كيلو متر فحسب، بل لأن أي صيغة يمكن أن ينتهي إليها الحل السياسي أو العسكري أو الاثنين معاً في سوريا تعنيها كذلك على الصعيدين، ولا سيما في ما يرتبط بوضع الأكراد فيها وبعلاقة هؤلاء مع الأكراد في تركيا.
يعني ذلك بطبيعة الحال أن الصراع بين البلدين سيبقى قائماً ما لم يحقق كلٌّ منهما مصالحه الخاصة دون مساس على الأقل بمصالح الطرف الآخر. لن يكون من الممكن بالطبع تحقيق ذلك نظراً لتضارب هذه المصالح فضلاً عن مطامح كل من البلدين على الصعيد الإقليمي من ناحية وإمكانات النجاح للوصول إلى غايته عن طريق المناورة التي يمتلكها كل منهما في هذا المجال. ففي حين تستطيع روسيا، بوصفها قوة كبرى، المناورة على الصعيد الدولي ندّاً لند مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا يسع تركيا إلا أن تناور على مستوى إقليمي وضمن إطار ما تسمح لها به عضويتها في حلف الناتو مع اضطرارها إلى لجم اندفاعاتها حسب ما تقتضيه المصلحة العليا لهذا الحلف كما فعلت إثر إسقاطها الطائرة الروسية.
رغم كل ما ينذر بوقوعها، لا يمكن، من حيث المبدأ إذن، للمواجهة العسكرية التقليدية المُهَدّد بها أن تتحقق بين تركيا وروسيا. يكفي للتثبت من ذلك بوضوح أن نتابع تسلسل مواقف وتحركات ومناورات كلٍّ من تركيا وروسيا منذ بداية الحراك الثوري في سوريا وقمع النظام الأسدي له بالحديد وبالنار. فحين بدأ تدفق اللاجئين على الحدود التركية بعشرات الألوف ثم بمئاتها، كان أول ما تطلعت تركيا إلى تحقيقه هو إقامة منطقة عازلة على حدودها مع سوريا. لكن روسيا التي وقفت في خط الدفاع الأول عن النظام الأسدي منذ اللحظة الأولى، والتي لم تكن لتوافق على ذلك، لم تكن بحاجة إلى أن تكون بالمرصاد للحيلولة دون تركيا وإقامة هذه المنطقة العازلة لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة، إذ تكفَّلَ حلف الناتو ومن ورائه إدارة أوباما بالحلول محل روسيا وبالقيام بتحقيق هذه المهمة. وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تنسق شيئاً فشيئاً مع الولايات المتحدة الأمريكية سياستيهما إزاء النظام الأسدي والحراك الثوري السوري وصولاً إلى ضرب من التواطؤ تبين فيما بعد أنه اتفاق شبه كامل بين البلدين على طبيعة الحل السياسي الذي نادا به وباشرا في فرض كيفيته وإجراءاته، كانت تركيا وهي تراقب ذلك بالطبع، تلقى في كل خطوة تحاول القيام بها المقاومة الناعمة أو الرفض الدبلوماسي من قبل الإدارة الأمريكية ومن قبل حلفائها معاً. ذلك أن الحفاظ على التوازن العسكري بين المعارضة المسلحة بمختلف ممثليها وبين النظام الأسدي مع ترجيح كفة هذا الأخير على الدوام للحيلولة دون سقوطه هو ما أرادته هذه الإدارة وما التقت عليه واتفقت حوله مع روسيا بوتين. ولعلَّ ما فاقم من جعل المحاولة التركية إقامة المنطقة العازلة في عداد المستحيلات إسقاط الطيران التركي طائرة السوخوي الروسية وثم تأزم العلاقات بين البلدين إثر ذلك على نحو غير مسبوق جعل الحديثَ عن مواجهة أو حرب وشيكة الوقوع بين الطرفين شبه يومي.
هكذا، وانطلاقاً مما سبق، تبدو المقارنة التي حاولتها بعض الصحف بين قوى البلدين وحدهما على الصعيد العسكري ـ أي دون الحديث عن القوى الحليفة لكل منهما أو افتراض وجودها في أية مواجهة محتملة ـ غير واردة وإن كانت تحمل على التقرير دون تردد باستحالة وقوع أية مواجهة عسكرية تقليدية بين البلدين نظراً للتباين الواسع بين قدراتهما.
من هنا اتخذت وتتخذ الحرب بين تركيا وروسيا صيغاً أخرى متعددة سلاحهما الأول التصريحات النارية. لكن السلاح الآخر الفعال يمكن أيضاً أن يتجلى في التضامن الذي تقوم به تركيا مع حلفاء تلتقي معهم في الأهداف كالمملكة العربية السعودية وقطر من أجل دعم المعارضة المسلحة في الداخل السوري، ومحاولة الالتفاف على روسيا من خلال خصمها المباشر، أوكرانيا، فضلاً عن دعم خصومها الذين إذ يخوضوا حربهم يخوضون أيضاً الحرب بالنيابة عنها! تماماً كما تفعل روسيا التي تبذل كل ما بوسعها من أجل استفزاز أنقرة، ولاسيما من خلال دعمها لمن تصنفهم تركيا من الجماعات الكردية ضمن الإرهابيين في سوريا مثل قوات الحماية الشعبية الكردية، وكذلك لمن هم في تركيا نفسها مثل حزب العمال الكردستاني. أما تركيا فتفعل هي الأخرى، من ناحيتها، كل ما بوسعها لا لاستيعاب هذا الاستفزاز فحسب بل لحماية أي خطوة تقوم بها، في مجال ما تعتبره أمنها القومي، من رد فعل عنيف يؤدي حينئذ إلى مواجهة لا قبل للطرفين على كل حال بتلافيها. على هذا النحو مثلاً تم التخفيف من حدّة الإعلان عن التدخل البري السعودي التركي في سوريا حين وضع في إطار التحالف الدولي وضمن خطته، أي ضمن الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة على أعضاء التحالف سياسة ومساراً وهدفاً. وهو ما لن يستجيب بالتأكيد للتطلعات التركية بقدر ما سيعمل على تكييفها مع الحل الأمريكي الروسي المنتظر وضعه موضع التنفيذ بإشراف روسي مباشر في مؤتمر جنيف الذي تمَّ تأجيله قبل بدء أعماله من أجل هذا التكييف بالذات والذي لا يطال تركيا هذه المرة بل يطال كذلك كما يبدو السعودية التي احتضنت مؤتمر المعارضة السورية من أجل المفاوضات حول هذا الحل على وجه الدقة.
سوى أن المناورة التي يقوم بها اللاعبون الإقليميون متضامنين قد تتفوق في تحقيق ما يصبون إليه أكثر من تلك التي يقوم بها اللاعبون الكبار من أجل فرض ما يريدونه.
لكن الطريق لا يزال طويلاً.
بدرالدين عرودكي